أحداث مالي وبؤر الإرهاب

TT

لم ينته تنظيم القاعدة بعد، ولم يتم استئصال الإرهاب حتى الآن، بل إن بعض الجماعات الأصولية العنفية تجد في الربيع الأصولي في بلدان الانتفاضات العربية خير داعم لها يمنحها الحرية ويغذيها بالأمل بشأن كيف تعيد حربها على المسلمين والعالم جذعة، تقتّل هؤلاء وتغتال أولئك تحت رايات الدم المكللة بالعنف والمتدثرة بالآيديولوجيا.

كما هو معروف فلم تزل مواطن النشاط الإرهابي والفعل القاعدي المضر والمدان والمجرم تتنقل بحسب مساحات الفوضى التي تتيحها لها عوامل الزمان والمكان وحجم الاضطرابات السياسية وضعف سلطة الدولة، حيث تخلق هذه مجتمعة المحضن الملائم والبيئة الخصبة لانتشاء الفيروس العنفي وتفشيه، وما يجري اليوم في مالي ليس غريبا إلا على غير المتابع، فهو يأتي ضمن سلسلة التنقلات لجماعات العنف الديني التي باضت وفرّخت في مثلث الإرهاب الممتد ما بين الجزائر وموريتانيا ومالي منذ سنين ذات عدد.

يجب أن يكون هذا حاضرا لدى أي متابع لما يجري هناك هذه الأيام خاصة في وجود ماكينة ضخ ضخمة تحاول قراءة المشهد هناك تحت شعارات إسلاموية بالية لطالما رفعها تنظيم القاعدة و«الإرهابيون إلا ربع» الموالون له من وراء ستار، وهي تتحدث عن الاستعمار واستهداف الإسلام والمسلمين ونحوها من عبارات الحشد والتجييش التي جربها الإسلامويون كثيرا من قبل في العديد من المناطق التي كانت بؤرا لتجمعهم في فترات مختلفة.

الإرهابيون مجرمون وقتلة، فهم لا يرعوون عن الدم والقتل، ويمارسون أبشع أعمال العنف والإرهاب ضد المسلمين في تلك البلاد، وهم كما هو معروف من تاريخهم لا يكتفون بوجودهم وسيطرتهم على منطقة معينة فحسب، بل إنهم يخططون من هناك لنشر العنف والإرهاب في بلدان المسلمين وفي أرض الله كلها، فدعاوى البعض بأن جل مرادهم تطبيق الشريعة في تلك البقعة هي دعاوى تدافع عن الإرهاب، وهي عارية عن الصحة وحديث لا زمام له ولا خطام، هؤلاء مسلحون فرضوا أنفسهم بالقوة العسكرية على أهل تلك المنطقة واضطهدوهم ونكلوا بهم، وهم يريدون تطبيق الشريعة على طريقة تنظيمات العنف الديني في الجزائر طوال التسعينات حيث القتل المريع والفتاوى الحمراء القانية باستباحة دماء النساء والأطفال والمسلمين والمسالمين.

الجماعات والتنظيمات والحركات التي تنشط في ذلك المثلث الإرهابي كلها تذكر الجميع بتاريخ حركات العنف الديني الدموي وتاريخ تنظيم القاعدة الأسود، فالأسماء قبل كل شيء تظهر ذلك بوضوح وتبينه بجلاء، فمن أهم الحركات النشطة هناك «حركة التوحيد والجهاد» و«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي» و«جماعة أنصار الدين»، وأخيرا وليس آخرا «جماعة الموقعون بالدم» التي قامت بخطف جزائريين مسلمين ومدنيين أجانب في الغرب الجزائري الأسبوع الماضي.

كما أنه وعلى العادة فإن تشكيل هذه التنظيمات يكون دائما من عدة جنسياتٍ يجمعها العنف والآيديولوجيا الصارمة، فكما صرح مصدر جزائري فإن خاطفي الرهائن (الموقعون بالدم) ينتمون لجنسيات مصرية وجزائرية وتونسية وليبية، وبالتأكيد ثمة غيرها من الجنسيات التي لم يكشف عنها بعد، ولم يسمع أحد من قبل بتنظيم لـ«القاعدة» يكون مقتصرا على جنسية بلد واحد، فهم لا يؤمنون بالأوطان أصلا.

نشرت هذه الصحيفة يوم الجمعة الماضي حوارا مع سندة أبو عمامة، الناطق الرسمي باسم «جماعة أنصار الدين»، في حوار يوضح التوجه الإرهابي القاعدي لهذه الحركة.. فالمصطلحات والمفاهيم التي استخدمها واضحة الدلالة وجلية التعبير عن توحد الخطاب الإرهابي وتوحد مفرداته بين إرهابيي الأمس وإرهابيي اليوم، فهو طالب العلماء والفقهاء بأن يكونوا «في مستوى الجهاد وفي مستوى الولاء والبراء وفي مستوى الكفر بالطاغوت»، وهي ذاتها ركائز خطاب تنظيم القاعدة، كما لم ينس الحديث عن شيخهم وشيخ معظمهم في المغرب العربي علي بلحاج، مما يؤكد على استمرارية في النهج العنيف السابق ذاته.

أشار كاتب هذه السطور في 26 سبتمبر (أيلول) 2011 لاحتمالية انتشار تنظيم القاعدة بما يمثله من حركات العنف الديني تحت ظلال الفوضى والاضطراب إلى منطقتين، كانت أولاهما «من مثلث (الجزائر - موريتانيا – مالي) وعبر الصحراء الجزائرية، ليصل لجنوب ليبيا وشمال النيجر وتشاد، وصولا إلى الشمال الغربي للسودان، ومع الأخذ في الاعتبار اضطراب تلك الجهة من السودان واضطراب ليبيا وكثرة المسلحين فيها من الجماعات الإسلامية فإن تلك البؤرة قد تكون موضع قلق حقيقي»، وهو ما سبق لكاتب هذه السطور أن أشار إليه في فترة أقدم في 2008 بالتأكيد على أن ثمة «خطرا يتم اكتشافه يوما بعد آخر، وهو لجوء تنظيم القاعدة إلى أفريقيا للتجنيد، خصوصا في المنطقة الواقعة في مثلث (موريتانيا - الجزائر – مالي)» في تحقيق نشر في صحيفة «الوطن» السعودية.

إن هذه الحركات العنفية تتحرك دائما تحت شعارات عامة وهويات كبرى لم يعد لها وجود في واقع السياسة، أي الدول وحساباتها للأرباح والخسائر.. شعارات من مثل الالتجاء للإسلام العام وتحشيد المسلمين عبر استخدام مفاهيم كالأمة الإسلامية أو الشعوب الإسلامية.. وهم يصرون على ذلك لأن واحدا من أهم المبادئ التي يرتكزون عليها والتي أخذوها - كغيرها - من جماعات الإسلام السياسي هو مبدأ «الأممية» التي لم يعد لها وجود فاعل على الأرض بعد ترسخ الدولة الحديثة واقتصار التعامل العالمي على العلاقات بين الدول والتكتلات السياسية المعترف بها.

السياسة لها لغة ومنطق ورائد، والآيديولوجيا كذلك، فالسياسة لغتها المصالح ومنطقها العقل ورائدها التطوير والتنمية، أما الآيديولوجيا فلغتها الغيب ومنطقها الوهم ورائدها التعصب. قد تجمح السياسة وتخطئ لكن لغتها ومنطقها يعيدانها إلى الطريق الصحيح، فهي لا تأنف من الاعتراف بالخطأ وإصلاحه، لكن الآيديولوجيا ليست كذلك، فهي تعتبر نفسها مقدسة وبالتالي لا يمكن أن تخطئ لدى نفسها ومعتنقيها، فتستمر دائما على أخطائها وتجرجر أذيالها على خيبات إثر خيبات وانحدار تلو انحدار، من دون أن تمتلك أي قدرة على التصحيح والتغيير فضلا عن التطوير.

لم تزل للإرهاب أذيال لم تقطع، ولتنظيم القاعدة آيديولوجيا لم يتم الانتهاء من تفكيكها ورفضها، لكن كل جهد يبذل في هذا الاتجاه هو جهد في الاتجاه الصحيح الذي ينبغي أن يستمر وصولا للقضاء على هذه الظاهرة المؤذية وكل تجلياتها وملحقاتها.