قوة الضمير

TT

من مآسي الحرب العالمية الثانية التي شغلت الباحثين، تدمير مدينة درسدن في شرق ألمانيا. كانت من أجمل وأقدم المدن الأوروبية وأحفلها بالمباني التاريخية الجميلة والمتاحف. لم تكن لها أي أهمية عسكرية أو صناعية. ولكن تشرشل أمر بقصفها وتدميرها كليا في الأيام الأخيرة من الحرب، وقد أصبح استسلام ألمانيا مسألة ساعات. لماذا فعل ذلك وتسبب في موت ألوف السكان الأبرياء؟

شغل ذلك فكر الكثير من المؤرخين. لست من تلامذة التاريخ، ولكنني درست فرويد ومدرسته في التحليل النفسي الذي يعزو جل تصرفاتنا لعقدة الإثم، بالإضافة للغريزة الجنسية. طبقت ذلك بإسهاب على تفسير الحركة الصهيونية في كتابي «تكوين الصهيونية». ما حدث خلال الحرب أن عالما إنجليزيا استطاع فك الشفرة العسكرية للألمان، مما سمي بشفرة اللغز، أو شفرة الإنيغما Enigma Code، أصبح ذلك من عوامل الانتصار على ألمانيا؛ فقد مكن الإنجليز من اكتشاف كل نوايا القيادة الألمانية وتحركاتها.

كان من ذلك أن فكت المخابرات شفرة أمر من هتلر للقوة الجوية بإبادة مدينة كفنتري البريطانية عن بكرة أبيها. أعلمت المخابرات تشرشل بهذا الأمر. وضعته في هذا المأزق العسير. يمكن الإيعاز لسكان المدينة بالجلاء عنها قبل يوم قصفها حفاظا على أرواحهم. بيد أن الألمان سيعرفون بعملية الجلاء، وبالتالي سيعرفون أن الإنجليز قد فكوا شفرة الإنيغما وأصبحوا يعرفون مخططاتهم فيبادرون إلى تغيير الشفرة ويضيعون على الإنجليز هذا التميز. وقف ضابط المخابرات أمام تشرشل ينتظر أمره في الموضوع: الخيار بين إنقاذ حياة سكان كفنتري أو إنقاذ هذه الميزة العسكرية على الألمان. أخيرا أصدر تشرشل أمره بكتمان الخبر عن الجمهور وتركهم يهلكون تحت وقع القنابل الألمانية. حدث ذلك وأسرع تشرشل لزيارة المدينة بعد محقها. تفرج على الدمار وعلى جثثت ألوف السكان الأبرياء.

كان تشرشل مبتلى بعلة الكآبة التي يربطها الفرويديون بعقدة الإثم وعذاب العقل الباطن. لا بد أن ما حصل لكفنتري قد أثر في نفسية تشرشل. أدرك أنه كان هو المسؤول عن موتهم. وبقي الموضوع يحز في ضميره. جاءته الفرصة في الأيام الأخيرة من الحرب ليداوي جروح ضميره بالثأر لمن ماتوا في كفنتري بقتل سكان درسدن، المدينة المشابهة لكفنتري في تاريخها وأبنيتها الحضارية.

ولكنه بذلك قد أضاف في الحقيقة جريمة جديدة إلى جريمة سابقة، وكان ذلك أمرا جعل بعض الباحثين يعتبرون تشرشل مجرما من مجرمي الحرب.

أقدم أحد الأدباء على تأليف وتقديم مسرحية في الموضوع تلقي باللوم على تشرشل عما حدث لمدينة درسدن. ولو أن ألمانيا كانت هي المنتصرة في الحرب لرأينا تشرشل في قفص الاتهام في نورنبرغ بدلا من غورنغ وغوبلز. ولكنْ ويل للمغلوب.

كلما أتتبع هذه الفصول التراجيدية والدموية الرهيبة من التاريخ الأوروبي، انطلاقا من حرب الثلاثين سنة إلى الحرب العالمية الثانية التي سفكوا فيها دماء ما يقرب من عشرين مليون نفس، أقف وأسأل نفسي من هو الأقل احتراما واعتبارا لحياة البشر: نحن في العالم الإسلامي أم هم في الواقع؟