الغراب يقتل جوا

TT

للحروب دورة واحدة في التاريخ: تتوزع القوة المحاربة، تقتل، تدمر، تفتك، تعذب، تحتل، تأسر، ثم تعود إلى حجمها. هكذا عادت الإمبراطورية البريطانية إلى «الجزر البريطانية» بعدما كانت لا تغيب عنها الشمس. هكذا تراجعت الإمبراطورية الرومانية. هكذا عادت الإمبراطورية العثمانية إلى بلاد الأناضول. هكذا انحسرت الإمبراطورية السوفياتية إلى روسيا الاتحادية. هذا ما حدث لليابان ولألمانيا الهتلرية. للبرتغاليين، للإسبان، للهولنديين. هذه هي الدائرة الحتمية التي لا تخطئ.

الحروب مثل الأوبئة والزلازل والأعاصير، مثل الطاعون والهواء الأصفر.. تقتل بلا تمييز، تتوسع من دون تخطيط، تلتهم الجميع ثم تلتهم نفسها، ثم تترمد، كما قتلت سواها في لحظة عبثية جنونية لا يتغير فيها سوى المكان: مخبأ هتلر، منفى نابليون، مشنقة موسوليني، إعدام صدام، مصرف القذافي، سجن سلوبودان ميلوسيفيتش... إلى آخره.

صارت الحروب جزءا من حياة البشرية لدرجة أن البشر وضعوا لها «قوانين» ومعاهدات من أجل الحد من ضراوة الإنسان وبشاعته. لكن البريطانيين أطلقوا النار على الاستقلاليين الهنود من فوهات المدافع، والأميركيين أحرقوا فيتنام من الجو، والحكومة العراقية استخدمت الأسلحة الكيماوية ضد مواطنيها في حلبجة، وهتلر أباد أسرى الحرب. ودائما كان المدنيون الأبرياء يدفعون الثمن الأكبر، في الحروب الصغرى أو الكبرى، الخارجية أو الداخلية، سوريا أو مالي أو دارفور. القائد في مخبأ والمساكين في الخيام وعلى الطرقات يحملون شيئا من حوائجهم، إذا ما كانت لهم حوائج.

كتب جان جاك روسو «الحرب، إذن، ليست علاقة بين إنسان وإنسان، بل بين دولة ودولة، يتحول فيها الأفراد إلى أعداء بمحض الصدفة». تُزرع الفوضى، تنفلت فيها الغرائز، تعم السرقات، تغيب الرحمة، تنتشر الأمراض، يعم التشرد، تتحول كل عائلة إلى مأساة. الحرب وحش أصيب بالجنون. الجار يقتل جاره أو يسرقه أو يطرده أو لا يغيثه. الصديق ضد صديقه. الأخ ضد أخيه. تصبح الاغتصابات عادة، والنهب حقا، والظلم مألوفا.

والبريء هو الرهينة الأبدية. يركب الطيار السوري مقاتلة الـ«ميغ» ويدير برنامجها، ويقصف أناسا لا يعرفهم، وبيوتا لا تبدو أمامه سوى نقاط إلكترونية، وهو سعيد لا يسمع من فوق صراخا ولا يرى جثثا ولا دماء. وعندما يعود إلى قاعدته يُهنّأ على دقته في إصابة الأهداف. يسمى هذا البلاء الحسن.. البلاء البشع.. الطاعون من الجو.