الاقتصاد العراقي وفرص النجاح

TT

في ظل امتلاك العراق لثروات طبيعية غنية وإمكانات سوقية هائلة، فإنه يمكن القول إن فرصه الاقتصادية تبدو واعدة ومبشرة، إذ من المتوقع أن يزداد تعداد سكانه (البالغ حاليا 32 مليون نسمة) بنسبة 3 في المائة سنويا، مما يخلق عددا أكبر من المستهلكين في المستقبل. وتشير التقديرات إلى احتمال نمو متوسط نصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي (الذي يبلغ حاليا 2640 دولارا) بنحو 10 في المائة سنويا، كما يتوقع أن تزداد القدرة الإنفاقية سريعا. ومن أجل خدمة هذه السوق المستقبلية الضخمة، شهد حجم الأنشطة التجارية الأجنبية طفرة هائلة من نحو 3 مليارات دولار عام 2007 إلى نحو 60 مليار دولار عام 2011، أي أنه تضخم بمقدار 20 ضعفا عما كان عليه قبل 4 أعوام. ورغم استمرار وجود بعض المخاطر، فإن الوضع الأمني بصورة عامة قد تحسن مقارنة بفترة ذروة الاضطرابات التي امتدت ما بين عامي 2006 و2007.

كذلك فإن سعر النفط (الذي يحلق عند مستوى مرتفع نسبيا) يسهم في زيادة حجم الاقتصاد العراقي، فقد افترضت ميزانية الحكومة العراقية لعام 2012 أن يباع النفط بسعر 85 دولارا للبرميل، في حين أن السعر السوقي الحالي يتجاوز 100 دولار. وما زال العراق حتى الآن يحقق أداء قويا نسبيا في إنتاج وتصدير النفط، حيث تجاوز إنتاج النفط العراقي مؤخرا 3 ملايين برميل يوميا، وهو رقم أعلى من الإنتاج الإيراني، كما أن العراق أصبح الآن ثاني أكبر منتج للنفط بين أعضاء «منظمة الدول المصدرة للنفط» (أوبك) بعد السعودية مباشرة. وبالإضافة إلى ذلك، فقد اكتملت مرافق تصدير النفط في البصرة أو شارفت على الانتهاء، وبلغت صادرات النفط العراقية في الآونة الأخيرة نحو 2.6 مليون برميل يوميا، وبالتالي يمكن للحكومة العراقية استغلال حصيلة إيرادات النفط هذه في تمويل ميزانيتها. وبوضع كل ما سبق في الاعتبار، يمكن اعتبار العراق واحدا من اقتصادات العالم التي تتمتع بأعلى إمكانات النمو اليوم.

ولكن في الوقت نفسه، فمن المهم التأكيد على أن وصول العراق إلى مرحلة الرخاء ليس مسألة حتمية، فالبلاد حاليا تمر بمفترق طرق، إذ إنه من الضروري وضع ميزانيات ضخمة للاستثمار وخاصة في البنية التحتية، إلا أن الحكومة العراقية واجهت في الأعوام الأخيرة زيادة مطردة في جوانب عجز الميزانية (على سبيل المثال، ففي توقيت كتابة ميزانية كل عام، كانت التقديرات أن يصل العجز إلى نحو 13 مليار دولار لعام 2011 و15 مليار دولار لعام 2012 و19 مليار دولار أو أكثر لعام 2013). وبحسب ما ذكره الدكتور سامي الأعرجي رئيس «الهيئة الوطنية للاستثمار»، فإن العراق في حاجة إلى ما يصل إلى تريليون دولار خلال السنوات الـ10 المقبلة من أجل إعادة إعمار بنيته التحتية المهترئة واقتصاده المنهار. إلا أن السؤال التالي يطرح نفسه: كيف يمكن لحكومة العراق تدبير تلك المبالغ الفلكية وزيادة قدرتها على اعتماد ميزانية كبيرة كهذه فيما يتعلق بالاستثمارات في البنية التحتية؟

ومن التحديات الأخرى تقلب أسعار النفط الذي يتطلب انتباها، فالعراق كما لاحظنا استفاد من ارتفاع أسعار النفط مؤخرا، إلا أن هذه الأسعار تتعرض لتقلبات كبيرة، ففي عام 2009 مر العراق بتجربة مريرة بسبب التراجع المفاجئ والسريع في أسعار النفط، كما عانى الاقتصاد من أضرار فادحة، مما اضطر الحكومة العراقية إلى طلب دعم مالي طارئ من صندوق النقد والبنك الدوليين. وإلى جانب ذلك، فإن الاقتصادات التي تعتمد على النفط كثيرا ما تواجه تحدياتها الفريدة الخاصة بها، مثل «المرض الهولندي» (وهو عبارة عن تراجع القدرات التنافسية للسلع التجارية غير النفطية عقب ارتفاع حقيقي في أسعار الصرف ناتج عن التشرب السريع للدخل الجديد في البلاد)، و«لعنة الثروات الطبيعية» (التي تتمثل في ضعف حوكمة وإدارة الاقتصاد بسبب اعتماد الحكومات الشديد على إيرادات الثروات الطبيعية أكثر من اعتمادها على الضرائب التي يتم تحصيلها من المواطنين، مما ينتج عنه سلسلة ضعيفة من المساءلة بين المواطنين والحكومات).

باختصار، فإن اتكال العراق على إيرادات النفط يمكن اعتباره نعمة ونقمة في آن واحد، فقد حذر تقرير أعدته «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» (USAID) لحساب «اللجنة الاستشارية التابعة لرئيس الوزراء العراقي» في شهر أكتوبر (تشرين الأول) عام 2012 بوضوح من أن الإفراط في الاعتماد على إيرادات النفط قد يؤدي إلى تشوهات اقتصادية وسوقية خطيرة، حيث إن الثروة النفطية قد تؤثر على الصادرات غير النفطية نتيجة لتقييم أسعار الصرف، وعلاوة على ذلك فإن الثروة النفطية قد تغطي على جوانب القصور الاقتصادي المكلفة مثل تضخم حجم القطاع العام، كما أنها قد تسبب تشوهات ومحفزات معاكسة. وذهب هذا التقرير إلى حد القول إن مسار النمو الذي يسير فيه العراق يتخذ منحى خطرا ينطوي على مخاطر سياسية واقتصادية ومجتمعية كبيرة.

وبعيدا عن قطاع النفط، فإن الحكومة العراقية تناضل من أجل جذب استثمارات القطاع الخاص وتنويع اقتصادها عن طريق تشجيع قطاعات مثل قطاع الزراعة، ويحتل العراق حاليا المركز رقم 165 من بين 185 بلدا واقتصادا في تقرير «ممارسة الأعمال» الذي يصدره البنك الدولي ويقيم فيه النظم الاقتصادية في 10 جوانب من جوانب تنظيم النشاط التجاري. وإذا ما وضع المرء في اعتباره العوامل الأخرى التي لم ترد في هذا التقرير (مثل مستوى تقديم الخدمات على أرض الواقع والقيود الأمنية والفساد)، فمن الممكن أن ينخفض تصنيف العراق أكثر من ذلك. ومن الجدير بالذكر أيضا أن «مؤشر مدركات الفساد» الخاص بـ«منظمة الشفافية الدولية» لعام 2012 وضع العراق في المركز رقم 169 من بين 174 بلدا، وإن كان قد سبق للحكومة العراقية الاحتجاج على هذا التصنيف.

ومن أجل تعزيز التنمية المستدامة، يجب على الحكومة العراقية اتخاذ خطوات للارتقاء ببيئتها التجارية بهدف اجتذاب الشركات الأجنبية ذات السمعة الكبيرة، كما تعتبر إعادة الحيوية إلى القطاع الخاص وجذب الاستثمار الأجنبي أمرين في غاية الأهمية فيما يتعلق بخلق فرص العمل الجديدة، حيث تتجاوز معدلات البطالة في العراق (التي يتم حسابها عند 16 في المائة في المجمل) نسبة 35 في المائة بين الشباب، وهناك حاجة إلى خلق فرص عمل جديدة من أجل تجنب القلاقل الاجتماعية وتوفير فرص النجاح أمام الاقتصاد. كذلك فإن ضرورة التنويع الاقتصادي تتبدى عندما يضع المرء في اعتباره المخاطر المذكورة التي تواجهها الاقتصادات المعتمدة على النفط، مثل «المرض الهولندي» و«لعنة الثروات الطبيعية»، وذلك بالنظر إلى محدودية فرص العمل في القطاع النفطي.

إذن، ما هو القطاع الأكثر تبشيرا بخلاف النفط؟ يرى الكثيرون أن القطاع الزراعي يتمتع بأكبر الإمكانات في تحقيق نمو واسع النطاق، وهناك أسباب كثيرة تجعل القطاع الزراعي يظهر بشائر النجاح هذه، من بينها قدرته على استيعاب فرص العمل، ونصيبه الحالي من إجمالي الناتج المحلي، وأهمية تنمية الريف بالحد من الظلم الاقتصادي، وخطورة قضية الأمن الغذائي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كذلك على المرء ألا ينسى تاريخ العراق المشرق في مجال الزراعة، باعتباره جزءا من الهلال الخصيب وأول سلة خبز عرفتها البشرية. وعلى هذا، فإن القطاع الزراعي يعد نقطة انطلاق جيدة من أجل تشجيع التنويع الاقتصادي.

وفي العراق، تعمل «وكالة اليابان للتعاون الدولي» (وهي الهيئة الحكومية اليابانية المسؤولة عن دعم البلدان الناشئة) منذ زمن طويل بصفتها شريكا قويا للحكومة، ومن أجل تحفيز الاستثمار الأجنبي المباشر ودعم تنمية القطاع الخاص، تعمل «وكالة اليابان للتعاون الدولي» بقوة على تحسين البيئة التجارية، من خلال تقديم قروض ميسرة ومختلف الخدمات الاستشارية، ويمكن إرجاع العقبات التجارية الرئيسية التي تواجهها إلى وجود نقص في البنية التحتية والقدرات المؤسسية والبشرية، إلى جانب الافتقار إلى الإجراءات التجارية الموحدة دوليا، كما يعتبر التأخر في سداد المستحقات المالية وغموض عمليات تقديم العطاءات والمقاولات أكبر المخاطر التي تشير إليها الكثير من شركات القطاع الخاص.

وقد عملت «وكالة اليابان للتعاون الدولي» أيضا بالتعاون مع الحكومة العراقية على بلوغ التنويع الاقتصادي، وخاصة في مجال الزراعة، ففي المناطق الجافة من البلاد، لا تزال فعالية استخدام المياه هي المشكلة الأكثر إلحاحا، ومن أجل مواجهة هذا التحدي لا بد من إقامة جمعيات لمستخدمي المياه، وتشجيع الري الموفر للمياه، وإعادة تأهيل أنظمة الري التي تعرضت للتخريب. وفي هذا الصدد، تعمل «وكالة اليابان للتعاون الدولي» على تقديم الخدمات الاستشارية، بما في ذلك تبادل الخبرات سواء فيما يتعلق بالمهارات الفنية أو الإدارية، وكذلك الدعم المادي من أجل شراء البضائع وإنشاء أنظمة الري لمساعدة الحكومة العراقية.

إن العراق لا يزال لاعبا مهما في الاقتصاد العالمي، وسواء من ناحية إسهامه في أسواق الطاقة العالمية أو من ناحية دوره في الشرق الأوسط، فإن المجتمع الدولي لديه مصلحة راسخة في نجاح العراق. ورغم ما تواجهه البلاد من تحديات كبرى، فإن هذه العقبات يجب التعامل معها بصورة جماعية، في ظل دعم من المجتمع الدولي، من أجل بناء مستقبل أكثر إشراقا للعراق وللعالم أجمع.

* كبير ممثلي مكتب «وكالة اليابان للتعاون الدولي» في العراق.