الاستقرار السياسي ضرورة لجذب الاستثمار

TT

لا تزال الأوضاع صعبة هناك. وفي بريطانيا لا نزال نشهد إشارات مشوشة. ففي قطاع صناعة السيارات أعلنت شركة «هوندا» عن تسريح 800 عامل في مصنع سويندون ملقية باللائمة على ضعف الطلب في أوروبا. وبعد أيام قلائل أعلنت «لاند روفر» أنها تخطط لتوفير 800 وظيفة جديدة. ويعود هذا الاستثمار الذي يجابه التباطؤ العام في صناعة السيارات، بشكل كبير إلى الزيادة في الطلب على سيارات جاغوار لاند روفر في الصين وروسيا والولايات المتحدة.

في الوقت ذاته أشارت «هوندا» إلى أن انخفاض المبيعات في أوروبا أجبرها على خفض الوظائف للمرة الأولى منذ دخولها السوق الأوروبية عام 1992، وهو ما يعني خفض القوة العاملة، في مصنع ساوث مارستون القريب من سويندون، لتتراجع قوة العمل بها من 3.500 إلى 2.700.

وقد شهدت مبيعات السيارات الجديدة في بريطانيا تحسنا ملحوظا لكن مصنع هوندا يصدر 50% أوروبا وتراجع مبيعات السيارات في أوروبا يعني أن المصنع يعمل بأدنى من طاقته الإنتاجية.

وقد أشار البعض إلى أن هذا الاستثمار قد ينتقل إلى دول الربيع العربي الناشئة، لكن بعد عامين من بداية الربيع العربي بلغت نسبة البطالة في تونس بحسب الإحصاءات الرسمية 18%، وأوضحت الدراسة التي أجراها الاتحاد الاقتصادي لـ«الشرق الأوسط» التي نشرت في سبتمبر (أيلول) أن 50% من الشباب التونسي من حملة المؤهلات العليا عاطلون عن العمل. وفي 12 ديسمبر (كانون الأول) خفض مؤشر فيتش راتينغز التصنيف السيادي لتونس معللا ذلك بتحولها البطيء نحو الاقتصاد الحر وتضخم عجز الميزانية وعجز الحساب الجاري. كما خفض مؤشر ستاندرد آند بور تصنيف تونس إلى مستوى دولة غير مستقرة، ويقول ميجي ديلول، أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة منوبة في تونس إن 80% من طلبته يتوقون للهجرة بعد التخرج، وقال: «خلال 25 عاما من التدريس لم أواجه على الإطلاق مثل هذا الإحساس بالعجز».

كان للربيع العربي مميزاته أيضا، فقد رفعت الثورة القيود التي فرضت لعقود على حرية التعبير، ويتفق التونسيون أنه حتى في ظل عدم وجود دستور قائم، إلا أنهم يشعرون بأنهم أكثر حرية، وهو ما يمثل في حد ذاته إنجازا هاما. أضف إلى ذلك الروابط الاقتصادية الوثيقة التي تربط تونس بأوروبا، وشعبها الذي يتمتع بثقافة عالية والبنية التحتية فيها تأتي بين الأفضل في العالم العربي ذات طرق جيدة و9 مطارات تجارية تخدم دولة بحجم ولاية فلوريدا.

ويقول وزير الخارجية التونسي رفيق عبد السلام، أستاذ العلوم السياسية السابق في بريطانيا الذي عاد إلى تونس في أعقاب الثورة: «نحن نمر بتحول معقد، على عكس ما شهدته أوروبا الشرقية. ونحن بحاجة لأن نثبت إمكانية إقامة ديمقراطية في العالم العربي».

لكن ربما لم تكن العلاقات مع أوروبا على النحو المتوقع في تونس. فقد أصاب ضعف الاقتصاد في أوروبا السياحة والصادرات، اللذين يعتبران أهم مصادر الدخل في تونس. وقد دعا ذلك المسؤولين إلى مناشدة الإمارات وقطر للاستثمار في تونس. حتى الآن لم تتلق تونس الدعم الذي تنشده، ناهيك عن المساعدة التي وعدت بها.

وكانت مجموعة الثماني قد تعهدت في قمة مايو (أيار) 2011 بتقديم أكثر من 30 مليار دولار كمساعدات للحكومات العربية الجديدة. وتقول علياء بالطيب، وزيرة الدولة التونسية لشؤون الاستثمار والتعاون الدولي: «عندما تحدثنا بشأن النوايا كانت 30 مليار دولار، وعندما تحدثنا عن التنفيذ لم نتلق سوى 250 مليونا فقط».

المقصد من ذلك هو أن على المستثمرين أن يكونوا أكثر حذرا الآن في عالم بالغ الصعوبة والغموض الذي يلف مستقبل دول الربيع العربي ويشكل خطرا على الاستثمارات الكبرى في الوقت الراهن.

ربما، مجرد ظن، أن تكون أسوأ أزمة لليورو قد انتهت الآن. وثقة الشركات والمستهلكين في ارتفاع عبر القارة، وعائدات السندات السيادية في انخفاض وهروب رأس المال من الاقتصادات الأضعف بدأ في التراجع، واختفت كل الأقاويل التي تحدثت عن تقسيم وشيك للمنطقة، حتى أن اليونان التي جرت ديونها الكارثية منطقة اليورو إلى أزمة امتدت لثلاث سنوات، بدأت في تلبية أهداف العجز التي توصلت إليها مع مقرضيها.

ويقول رئيس وزراء لكسمبورغ جان كلود جنكر: «لقد مضى الأسوأ، لكننا سنستمر في مواجهة عقوبات». وسوف نرى.

وكما أسلفت فالمستثمرون قلقون ومتوترون. فقد أضاف الموقف في مالي إلى قلقهم. كانت مالي تعتبر على مدى 20 عاما نموذجا ديمقراطيا في غرب أفريقيا، ولقيت إشادة بنموها الاقتصادي النسبي واستقرارها الاجتماعي، لكن الكثير من هذا التقدم تبدد في عام 2012 بسبب الانقلاب العسكري، وتنحية الرئيس وإجبار رئيس الوزراء على الاستقالة، ناهيك عن تمرد انفصالي الطوارق والتمرد المرتبط بـ«القاعدة» التي شكلت دولتها الخاصة في شمال مالي. وكانت المساعدات الخارجية تشكل ما يقرب من نصف الإنفاق الحكومي في الماضي لكنها تواجه خطرا محدقا ما لم تعد أدراجها إلى الديمقراطية. وهذا يختلف عن خطة الإنقاذ المنظمة في أوروبا.

هذه الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ستتضاعف نتيجة المخاوف الأمنية بشكل عام خلال الشهور القليلة القادمة. وليست هناك ضمانات في أن يساعد التدخل الأجنبي البلاد إلى العودة إلى المسار، وقد تسوء الأمور فيزداد العنف وعدم الاستقرار بشكل عام.

ولذا ففي أوقات الاضطراب يعود المستثمرون إلى الأسواق التي يمكنهم الثقة فيها. كانت وكالة مودي قد صنفت آيرلندا عند Ba1 بعد تجريدها من تصنيفها في فئة الاستثمار في عام 2011. لكن على عكس تونس تعتبر آيرلندا مستقرة سياسيا ومن ثم جاذبة للاستثمار. فكشفت آيرلندا يوم الثلاثاء النقاب عن طرح سندات مشتركة للمرة الأولى، منذ بدء خطة إنقاذ الدولة المدينة التي بلغت 67.5 مليار يورو من قبل الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي في 2010. بقيمة 2.5 مليار يورو أجل خمس سنوات شهدت طلبات شراء تتجاوز ثلاثة أضعاف هذا الرقم، حيث تهافتت أكثر من 200 مؤسسة استثمارية للحصول على السندات وبلغت نسبة المقرضين غير الآيرلنديين 87% من الدين.

وعلى نحو منفصل، قال بنك بوندز إن آلية الاستقرار الأوروبية، صندوق إنقاذ منطقة اليورو طويل الأجل، باعت ما قيمته 1.927 مليار يورو من أذون الخزانة، وواجه مطالب قوية في أول مزاد للدين قصير الأمد عارضا، ويبلغ هامش ربح الأذون، التي بلغت نسبة العطاءات المقدمة مقابل العطاءات المقبولة 3.2، سالب 0.0324%.

إذن نحن لا نزال في مشكلة عالمية لكن إذا قدر للدول الناشئة أن تستفيد بالشكل الملائم فينبغي أن تظهر استقرارا سياسيا كي تصبح جاذبة للاستثمار، وهنا أعيد ما قاله وزير الخارجية التونسي، رفيق عبد السلام: «نحن بحاجة لأن نثبت إمكانية إقامة ديمقراطية في العالم العربي».

* جون ديفي أستاذ زائر في كلية لندن متروبوليتان لإدارة الأعمال ورئيس شركة «ألترا كابيتال».