قفشات ما بعد الموت

TT

لا يترك الظرفاء موقفا دون أن ينكتوا فيه. بيد أن اثنين منهم استمرت دعاباتهم إلى ما بعد موتهم. كان أحدهما من مصر والآخر من إنجلترا. وهل من عجب! كنت أعاني الأمرين من صديقي الإذاعي فؤاد الجميعي - رحمه الله. فما كنت أستطيع أن أبحث أي شيء جدي معه إلا وحوله، على طريقة المصريين، إلى قفشة وأضاع عليّ الموضوع، تماما كما فعل الشعب المصري مؤخرا بمصير بلدهم في ثورة الربيع العربي. بيد أن العجيب أن صديقي فؤاد حوّل حتى موته بعد إصابته بالسرطان وبعد دفنه إلى قفشة. رأيته في المنام فسألته: كيفك يا فؤاد؟ فأجابني: «كويس تمام. أنا تخلصت من السرطان.. دلوقتي أنا الآن ميت!».

جعلتني النكتة أفكر. هل زارني طيفه فعلا في المنام ونكّت معي، أم يا تراني كمنكت آخر صغت النكتة نيابة عنه في منامي؟

الظريف الآخر الإنجليزي الذي أضحك الآخرين بعد موته كما ذكرت، كان السياسي والكاتب المسرحي ريتشارد شريدان. ما زال أهل السياسة يتندرون بقفشاته البرلمانية عندما كان نائبا في مجلس العموم. وفي الوقت عينه، ما زالت نكاته على لسان الظرفاء والأدباء يرددونها في شتى المناسبات. وكل ذلك رغم مرور نحو ثلاثمائة سنة على مماته. وكمعظم الظرفاء، عاش ومات يعاني العوز ويعيش على الديون. كلما حاول شيئا عاكسه الحظ. حاول أن يحسن أوضاعه المالية بشراء مسرح يقدم فيه أعماله. ما إن أنجز ذلك حتى شبت النار فيه والتهمته كليا، في وقت لم يعرف الناس التأمين على الحريق. رأوه جالسا أمام المسرح وألسنة اللهيب تتصاعد منه، وبيده قدح من النبيذ. نبهه أحد أصحابه إلى فعلته هذه. فأجابه: «أرجوك، يعني لا تريد أن تسمح لرجل أن يحتسي شيئا من النبيذ أمام نار موقده؟».

وبهذا الإفلاس، مات ريتشارد شريدان. وشيعوه لمثواه الأخير. ولكن قبل أن ينزلوا جثته في القبر، تقدم رجل وقال للحانوتي: «أنا أحد أصدقاء الميت. تسمح لي ألقي آخر نظرة عليه قبل أن تواروه التراب؟»، لم يجد الحانوتي أي مانع من ذلك، فرفع غطاء التابوت ليتفرج على الجثة. نظر الرجل إليها بإمعان، ثم قال: «نعم وبلا أي شك، إنه نفس الرجل المدين للخياط بمبلغ خمسمائة باوند». ثم أبرز ورقة من جيبه وقال: «أنا مأمور حجز وعندي هذا الأمر بتوقيف الميت حتى يسدد دينه للدائن». لم يكن هذا طبعا في العراق، وإنما كان في إنجلترا حيث يحترم الناس القانون. فوقع الحانوتي والدفان وكل المشيعين في مأزق. لم يعرفوا كيف يحلون المشكلة. ولكن لحسن حظ الميت أن كان هذا في إنجلترا أيضا حيث يحترم القوم الأدباء والظرفاء، فكان بين المشيعين رئيس الحكومة نفسه، المستر كننغ ووزير المالية اللورد سدموث. تشاور الاثنان، ثم حرر كل منهما شيكا بمبلغ 250 باوندا وسلموه لمأمور الحجز، الذي بادر فورا لفك الحجز عن الجثة الظريفة وكتب إيصالا بالتسديد وضعه في الكفن.