التطلع إلى المستقبل في مالي

TT

ترجح الاحتمالات أن تحوز القوة الجوية الفرنسية المدعومة بأعداد ومعدات كبيرة على الأرض في مالي على الغلبة، وأن تجبر الجهاديين على التراجع بشكل ما إلى حزام الساحل الأفريقي، غير أن ذلك سوف يكون بالكاد هو النهاية. فنحن نعلم من الحروب السابقة في أفغانستان واليمن والعراق وغيرها أن الجهاديين ينظرون نظرة بعيد المدى إلى الحرب العالمية التي يشنونها، ففي مالي ظل أحد تنظيمات الجهاديين المسلحة الرئيسية (وهو تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي) أعواما يتحرك في مساحة شاسعة في الشمال لا تتمتع فيها الحكومة (وسوف تظل) بسيطرة تذكر. ونحن نعلم أيضا أن فرنسا لا يمكنها سياسيا أو اقتصاديا تحمل أعباء تدخل طويل الأمد، ومن المحتم أن يبدأ الفرنسيون - الذين يستثمرون حاليا الكثير جدا من الدماء والأموال بينما يعرضون أنفسهم لمخاطرة سياسية فادحة - في التفكير في كيفية مساعدة الماليين على جمع شتات بلادهم من جديد.

ومن بين أسباب نجاح الجهاديين اليوم ما تعانيه الحكومة المالية من ضعف دائم، وفشل العملية السياسية في مالي، والشعور العميق متعدد الوجوه بعدم الرضا الذي يسود بين الماليين بخصوص طريقة ممارسة السياسة وتوزيع الموارد.

ومن شأن تحقيق نجاح بعيد المدى أن يحفز إعادة بناء العملية السياسية في مالي، فالعبارات المجازية البسيطة التي تم تقديمها حتى الآن عن الانتخابات ووحدة الأراضي وإنهاء التهميش في الشمال لا تكفي، وعلينا أن نعترف بـ3 عقبات خطيرة تقف أمام استرجاع الشرعية السياسية وإعادة بناء مؤسسات الدولة في مالي، وأي من هذه العقبات لن يكون من السهل على الدخلاء أو الماليين علاجه سريعا.

العقبة الأولى تتمثل في تعطل العملية السياسية في مالي، فقد مرت البلاد بتحول ديمقراطي هائل في أوائل التسعينات، غير أن الأمور لم تسر على ما يرام، حيث استشرى الفساد وأسيء توزيع الموارد، وبدلا من تعزيز قيام أحزاب سياسية فعالة، ابتلعت الحياة السياسية في مالي الأصوات المستقلة، وتبدد الحلم الديمقراطي المالي في شهر مارس (آذار) من العام الماضي، عندما استولى ضابط عسكري تلقى تدريبا أميركيا على السلطة في انقلاب عسكري، ومنذ ذلك الحين أصيبت الحياة السياسية هناك بالشلل، ومع إزالة القشرة الديمقراطية الخارجية، كشف هذا الانقلاب العسكري عن قلب متعفن.

العقبة الثانية هي أن القوات المسلحة التي نفذت الانقلاب العسكري وغرقت بعنادها في مستنقع السياسة منذ ذلك الوقت، لا بد أن تنسحب من الساحة السياسية نهائيا، غير أن هناك خيارين أحلاهما مر: فمن أجل نجاح التدخل في مالي، يحتاج الفرنسيون إلى تعاون والتزام قويين من الجيش المالي، والماليون بدورهم سوف يطالبون على الأرجح بثمن سياسي غال مقابل الأعمال التي يقومون بها ضد الجهاديين، ولن يكون التفاوض من أجل الخروج من هذه الورطة بالأمر السهل.

العقبة الثالثة، ضرورة التوصل إلى حل دائم لمشكلة شمال مالي، فالشمال موطن لكثير من الجماعات العرقية المالية، من بينها مجموعات الطوارق المختلفة التي خاضت خلال فترات متفرقة من الخمسين عاما الماضية معارك ضد حكم الجنوب. وقد ساعد التعاون الأولي بين الانفصاليين الطوارق والجهاديين في سيطرة الجهاديين على شمال مالي العام الماضي (تناحرت الجماعات إثر ذلك، وهو ما دفع مجموعات الطوارق القومية الرئيسية إلى تأييد التدخل الفرنسي). لكن العثور على المزيج الصحيح من الاعتراف بالاحتياجات الخاصة لشمال مالي ودمج المنطقة، مع عدم تنفير الماليين الجنوبيين في الوقت ذاته ليس بالمهمة السهلة.

كل هذه القضايا بحاجة إلى معالجة سريعة. ورغم تركيزهم على مالي، فإن فرنسا وأميركا واللاعبين الدوليين الآخرين يحتاجون إلى جمع عدد من الخبراء وتكريس الموارد لحل هذه المشكلات. ومن ثم نضع ثلاث توصيات على الطاولة.

الأولى: تمتلك مالي مخزونا من البراعة الديمقراطية مدفونا في مكان ما من البلاد، ففي بداية التسعينات وضعت حركة مؤيدة للديمقراطية رؤية ديمقراطية حديثة مفصلة قائمة على قيم مالية تقليدية للحوار والاتفاق. كان محور هذه الخطوة عقد مؤتمر وطني ولقاءات شعبية ومناقشات عامة صريحة. ولتمهيد الطريق قدما تحتاج مالي إلى العودة لهذه الآليات لاستيضاح الأخطاء وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. كما ينبغي إعادة تدشين حوار سياسي وطني قبل الانتخابات.

ثانيا: ينبغي تطوير الجيش المالي، فقد كشف الانقلاب عن حالة عميقة من الاغتراب داخل صفوف الجيش، لكن القادة الأفارقة اتخذوا موقفا متشددا ضد الانقلابات العسكرية، ولا يمكن استعادة الشرعية السياسية المالية إلا في حال ظل الجيش بعيدا عن السياسة. إحدى سبل هذا التطوير ضرورة إفساح المجال كي تسمع مشكلات الجيش. والبروتوكولات القائمة الخاصة بالتدريب والترقية والتعبئة، ناهيك عن المخاوف الأخرى، ينبغي مراجعتها وإعادة النظر فيه.

في النهاية، رغم وجود الكثير من النداءات للقيام بذلك، فإن تدفق المال إلى الشمال لن يتمكن بمفرده من حل المشكلة. فلم تتمكن جهود مماثلة لذلك في أعقاب تمرد الطوارق في التسعينات من امتصاص هذه المشاعر الانفصالية.

سوف يبدي غالبية السكان الماليين استياء من تكريس المزيد من الموارد للشمال، وهو ما يقوض إعادة البناء السياسي الحرج على المستوى الوطني. مالي بلد فقير إلى حد بعيد، تزداد مطالب كل إقليم فيه وتفضيل الشمال سيبدو أشبه بمكافأة الخيانة. واستقلال الشمال سيكون أيضا أمرا لا مناص منه.

لكن هناك ترتيبات للحكم الذاتي في الإقليم مقابل التزام بوحدة الأراضي قد ينجح. وإذا ما أمكن استعادة السلام في الشمال، فأول ما يمكن البدء به هو الحوار السياسي وإجراء استفتاء على الحكم الذاتي للشمال يهدف إلى التوصل إلى حل دائم.

لكن أيا من هذه المهمات ليس بالأمر الهين، لكن إذا لم يتم التعامل مع المشكلات المؤسسية والسياسية العميقة في مالي فقد ينجح التدخل العسكري في مالي في الفوز بالمعركة، لكنه سيخسر الحرب.

* شتراوس أستاذ العلوم السياسية المختص بشؤون الصراع في أفريقيا. وبروتيم باحث في الدكتوراه في الجغرافيا ومختص بدراسة جغرافيا مالي. وكلاهما أستاذ في جامعة ويسكنسون بمقاطعة ماديسون.

* خدمة «واشنطن بوست»