إنه الاقتصاد أيها «الربيع العربي»

TT

اليوم تختم، في العاصمة السعودية الرياض، القمة العربية التنموية الاقتصادية والاجتماعية في دورتها الثالثة، وهي معدة، كما هو معلن ومخطط له، للقضايا التنموية، وحسب ما نشر فإن من أبرز البنود التي ستناقش ملفات من بينها الربط البري للسكك الحديدية وزيادة الاستثمارات والتجارة البينية ومشروع الاتحاد الجمركي المقرر تفعيله في عام 2015.

القمة شهدت تمثيلا رفيع المستوى للدول العربية، على وجه الخصوص دول ما سمي بالربيع العربي، مصر وتونس واليمن، وهذا أمر مفهوم، فالقمة وموضوعها، وتوقيتها، ومكانها، والدولة الداعية لها، كلها تضيف أهمية فوق الأهمية على المناسبة.

هذه القمة تعقد في ظروف اقتصادية وسياسية وأمنية بالغة الصعوبة للدول العربية، تقريبا الأصل في الأحوال في المنطقة هو الاضطراب والقلق على المستقبل والتألم من الواقع الصعب.

مصر واليمن وتونس والأردن تعاني من ترنح اقتصادي ونزيف استثماري، وصعوبات جمة في المعيشة اليومية والإنفاق على السلع والخدمات الضرورية، وتوجس من مستثمري الخارج والداخل في ظل الغموض السياسي، بينما دول مثل ليبيا والجزائر والعراق تعاني من اختلال أمني رهيب، وانقسام عميق بين قادة السياسة والمجتمع، فضلا عن مخاطر الإرهاب الدولي في شمال أفريقيا كلها عبر صحرائها الكبرى ومركز ذلك ما نشهده في حرب مالي.

كل شيء يمكن المغالطة فيه، وتدوير الزوايا حوله، وتأليف الحيل اللفظية، ومخادعة الجمهور والداخل والخارج، من السياسة إلى الدين إلى الثقافة. كل هذا يمكن المماطلة فيه، وممارسة ألاعيب السياسة والتمويه على الرأي العام.

لكن لغة الاقتصاد لا يمكن المخادعة فيها، فهي أرقام لا تكذب، وواقع يمس الناس بشكل مباشر، لأن الاقتصاد، كالطب والعلم، لا يفرق بين الناس على معايير دينية وعرقية وثقافية، فالجوع هنا هو الجوع هناك، وأهمية الخبز هناك كما هي أهميته هنا، وكما يوضع الشعار الشهير على وجه تمثال العدالة وهي معصوبة العينين ممسكة بميزان العدالة، دلالة على عدم تفريق العدالة بين الناس، رغم أنه تفرق أحيانا، بل وأحيانا كثيرة، لكن الاقتصاد هو الذي لا يفرق بين الناس أبدا، ولا يمكنه ذلك أصلا، لأنها لغة أرقام باردة خشنة مباشرة.

انتهت حفلة الربيع العربي، ونفد وقود التصفيق لها في الإعلام العربي ومواقع الإنترنت، وتنصل المثقفون والكتاب العرب من قصائد المديح، ذاب الثلج وبان المرج كما قيل في المثل، وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء، وتكشفت الأرض عن بثور وحفر وإنهاك شديد.

في نهاية الأمر، وبعيدا عن حكي السياسة وصراع الآيديولوجيا، لا يهم المواطن العادي والإنسان غير المسيس إلا تأمين حياته وحياة أسرته، تأمينها ماديا وأمنيا وصحيا. وما سوى ذاك أباطيل وأسمار بالنسبة له.

سيمدحون الربيع العربي، هؤلاء الناس العاديون، بقدر ما يفيدهم هذا الربيع في حياتهم، وسيذمون هذا الربيع بقدر ما يضيرهم في حياتهم، هذه هي الحقيقة الصافية من أوشاب السياسة وترهات الوعاظ والخطباء.

قديما قال المتنبي، شاعر العرب الأكبر:

خذ ما تراه ودع قولا سمعت به

في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل

دعونا نقرأ بعض الصورة بعد ما جرى منذ سنتين، أي فترة الربيع العربي، بطالة حادة، وارتفاع حاد في السلع، وتردٍّ في الخدمات، وجفاف في الاستثمارات، الخارجية منها والداخلية، تونس كانت على وشك الوقوع مؤخرا في هوة عميقة وما زالت بسبب نضوب الاحتياط، والعجز عن سداد الرواتب، واليمن لا يقل تضعضعا عنها، أما في مصر فبسبب ضخامتها، سكانا وموقعا ومشكلات، فإنها تعاني بصورة أكثر حدة، بعيدا عن كل تنظير لا يقدم ولا يؤخر.

من آخر الأخبار التي تزامنت مع موعد قمة الرياض العربية الاقتصادية، في ما يخص مصر، كما قرأت في «العربية نت»، قرار الملياردير المصري ناصف ساويرس مؤسس «أوراسكوم للإنشاء والصناعة»، إحدى كبرى شركات التشييد والأسمدة في العالم، إنهاء الوجود القانوني لشركته في مصر، بينما باع شقيقه نجيب أسهم معظم شركاته في مصر، واحتفظ شقيقهما الثالث بموطئ قدم في الخارج من خلال شركة أسسها في سويسرا.

وأعلنت شركة «أوراسكوم للإنشاء والصناعة (أو سي آي)» في بيان الأحد أنها «تلقت في 18 يناير (كانون الثاني) الحالي عرضا من شركة (أو سي آي إن) الهولندية لمبادلة كل أسهم (أوراسكوم) المصرية بأسهم في الشركة الهولندية».

عائلة ساويرس المصرية القبطية واحدة من أكثر الأسر ثراء في مصر وأفريقيا. ويحتل ناصف المرتبة الرابعة في قائمة أغنى الأفارقة وفقا لمجلة «فوربس» التي تقدر ثروته بـ5.5 مليار دولار.

نجيب سايروس، أحد قيادات العائلة الأثرياء، والأشهر فيهم، بسبب استثماره في الإعلام، ونشاطه السياسي، تعرض للكثير من الهجوم والتشكيك في وطنيته، بل وتقدم أحد محامي الشهرة ببلاغ للنائب العام ضد عائلة ساويرس بتهمة السعي لانهيار الاقتصاد المصري!

ولعل من آثار الحيرة الاقتصادية العامة في البلد، هذا الحرص البوليسي الهوسي في التفتيش عن أي مبالغ مالية هنا أو هناك، صدقا أو وهما، من أموال حسني مبارك الهاربة للخارج، إلى أموال حسين سالم المقيم في إسبانيا، إلى أموال «فلول» النظام في كل مكان للعالم.

من طرائف ما حصل في هذا الصدد مؤخرا - كما قالت مصادر قضائية - أن مواطنا من محافظة الغربية (شمال غربي القاهرة) تقدم ببلاغ إلى النائب العام المصري المستشار طلعت عبد الله، يطالب فيه بمحاكمة القائد الفرنسي بونابرت؛ لقيام قواته بتحطيم أنف تمثال أبي الهول، وتدنيس خيولها للأزهر الشريف، وكذلك بمحاكمة كل من شارك في هذه الأفعال الشنيعة. كما طالب مقدم البلاغ، وهذا هو المهم، بـ«إعادة الآثار المصرية المنهوبة والمسروقة، وتوقيع أقصى العقوبة على الذين قاموا بسرقتها وتهريبها إلى الخارج».

الأمر ليس خاصا بمصر، بل هو عام في المنطقة، وله أسباب لا علاقة لها بالثقافة والشعارات الكبرى، بل هي وصفة للنجاح أو الفشل تنطبق على الجميع، بل وإن الاضطراب الأمني والفوضى الحاصلة في دول الربيع العربي، وغير دول الربيع العربي أيضا، يزيد الوجع وجعا، والفقر فقرا، والضعف ضعفا فوق أضعافه.

حسب تقرير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي العربي فإن حجم الاستثمارات البينية العربية هزيل لا يتجاوز 25 مليار دولار، الأمر الذي يتطلب قفزة كبيرة في هذا المجال للحد من البطالة وإيجاد فرص عمل للشباب بما يعزز الاستقرار في الدول العربية.

من أهم ما له علاقة بمناسبة حديثنا هنا، من هذا التقرير، أنه من العوامل التي ساعدت في ارتفاع معدلات البطالة تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة الوافدة للدول العربية والتي انخفضت من 68.7 مليار دولار عام 2010 إلى 43 مليارا عام 2011، أي بنسبة 37%، أي أن عام الربيع العربي، 2011، كان سيئا بالنسبة لملف الاستثمار الخارجي في العالم العربي، مما رفع من نسبة البطالة المرتفعة أصلا قبل ما سمي بالربيع العربي.

صفوة القول وزبدته أنه لا مناص لكل الناس من مواجهة الحقيقة المباشرة: إنه الاقتصاد والتنمية يا عربي... والباقي مجرد «حواديت» بالمصري، أو «سواليف» باللهجة الخليجية.

مرة أخرى مع المتنبي:

والهجر أقتل لي مما أراقبه

أنا الغريق فما خوفي من البلل

[email protected]