بعض رجال الرئيس!

TT

أردت في العنوان أن أناقض ما ذهب إليه الصحافي عادل حمودة في برنامجه الساخر: «كل رجال الرئيس»، والرئيس هنا ليس بالضرورة هو الرئيس السابق حسني مبارك، بل كثير من الرجال الذين التصقوا – بعضهم ما زال – بقمم بلادهم، ومتخذي القرار فيها.

استراتيجية قفل النوافذ والأبواب في الباب العالي، باب الحكم، ليست جديدة، ولكن هناك رجال أيضا يعملون على إحكام غلق تلك الأبواب والنوافذ.

يعزل الرجل القابض على السلطة عما يدور حوله، حتى يصبح في عالم افتراضي ربما اشتهاه بنفسه وصدقه، لعل أشهر ما قيل في ذلك، ما نقله آخر سفير بريطاني لدى إيران السير أنتوني بارسون، في كتابه عن الشاه محمد رضا المعنون بـ«الفخر والسقوط»، حيث سأل الشاه في خضم تصاعد الثورة الإيرانية ضده، كما نقل في كتابه، هل هذه المظاهرات في شوارع طهران قائمة لتأييدي؟ لم يكن أحد من الحاشية يرغب أو يستطيع أن يقول له لا إنها ضدك، إلا السفير البريطاني هو الذي رد على سؤاله بالنفي. وبعض رجال الرئيس ليس من هم حول مبارك فقط، بل أيضا القذافي وبن علي وعلي صالح، كتبوا أو تحدثوا لوسائل الإعلام عن «حقيبة الأسرار» التي كانت بحوزتهم. المصريون أكثر من فعل ذلك ويحسب لهم.

ومن باب ذكر الخاص بعد العام – كما يقول النحويون – فقد كان لإطلالة أحمد أبو الغيط، وزير الخارجية المصري الأسبق، على التلفزيون مع الإعلامي جمال عنايت، وكتابه الموسوم «شهادتي»، ما يفرض مناقشة دور رجال الإدارة الكبار في تبصير الحاكم أو تضليله.

إطلالة أبو الغيط تقود المتابع إلى محاولة فهم الأسباب – أو بعضها – التي أطاحت بقيادات عربية في السنتين الأخيرتين، وربما تضيء أيضا على ثقافة سياسية كانت من بين عوامل الانزلاق السريع إلى القاع، كما يمكن أن تفعل هذه العوامل فعلها حولنا بصمت مريب في عواصم أخرى، وقد أزف الوقت لمناقشة سلبياتها وإيجابياتها.

هذه العوامل يمكن تلخيصها في معادلة راقت لي، هي (ممنوع اللمس، ولا يجب الاقتراب إلا بالهمس)، أي عدم لمس الموضوعات الحساسة التي تغيظ الرئيس أو المسؤول، وإن كان لا بد فعليك بالهمس. وهي مدرسة انتشرت ولا تزال في كواليس الحكام.

أبو الغيط رجل ذكي وفطن، كحال عدد كبير من رجال الحاشية في أكثر من مكان، ولكنه كغيره، فضل أن يهمس بدلا من الجهر، والهمس في آذان قليلين، ليس منهم - إلا فيما ندر - الرجل الكبير.

وليأذن لي الرجل الكريم أبو الغيط أن أتناول مساهمته كمثال لا كموضوع بحد ذاته، كما أؤكد أن ما قاله وكتبه يدل على شجاعة، وإن كانت متأخرة، فهي محمودة. ولكني أردت بالتناول أن أتحدث عما قاله أبو الغيط وآخرون حول الرؤساء الذين غادروا، والتي تشكل ظاهرة سياسية عربية، ليس المراد نقدها بل باعتبارها مؤشرا، ربما يتكرر في الأنظمة البديلة التي جاءت، وهي تخطو أولى خطواتها الأولى في السلطة.

يقول فيما يقول أبو الغيط، إن مسؤولين أميركيين من بينهم ديك تشيني، وجون ماكين، وكوندوليزا رايس، في بحر النصف الأول من العشرية الأولى للقرن الواحد والعشرين، وطنوا على قمة السلطة، أبدوا اعتراضهم له على فكرة التوريث - توريث مصر لجمال مبارك - كوزير للخارجية لم يضمن ما سمعه تقريره الموسع الذي رفعه، ولا حتى المختصر بعد عودته، إنما أسر به إلى الرئيس لاحقا (لا نعرف البيئة أو التعبيرات التي استخدمت)، بعدها امتعض الرئيس من ذلك، حتى إن بعض المحيطين في اليوم التالي أرادوا أن يعرفوا ما قاله أبو الغيط للرئيس وتسبب بامتعاضه.

المهم هنا أن وزير الخارجية لم يستطع أن يضع في تقرير رسمي ما سمعه من قادة دولة كبرى وحليفة! يقول أبو الغيط إن كثيرين يعرفون أنه كانت هناك مؤسسة تبنى من أجل التوريث أمام القاصي والداني، وهناك لجنة سياسات يقودها النجل ترفع من شأن من استسلم في البيروقراطية، وتذل من أبدى المعارضة أو الاستنكار، إلى درجة أن أكاديميا مشهورا تحدث في الموضوع علنا، فاتهم بالمروق، وزج به في السجن في قضية ملفقة، وسكت عن الدفاع عنه كثيرون. وفي حديث أبو الغيط المكثف أن هناك فرصا كثيرة ضاعت على مصر، سواء في أفريقيا ومنابع النيل، أو في الإصلاح العام، كمثل مشروع القضاء على العشوائيات التي كانت الولايات المتحدة مستعدة لرصد مبلغ ضخم من المال للقضاء عليها، تلك المشروعات امتصها الخوف من البوح، فضاعت بين أرجل المصالح المتضاربة.

الوزير يهتم بوزارته – ذلك هو المتبع في الفضاء السياسي العربي - وقد أكده أبو الغيط، وفي أكثر الأوقات ينتظر التعليمات، فيطيع ولا يناقش، خوفا على كرسي كبر حتى أصبح أهم من الشخص ذاته! البيروقراطية أو قل «الأوتوقراطية»، التي ركبها حكم العسكر وما يشبهها في فضائنا العربي في قرن كامل تقريبا، أدت إلى تحول الرجال إلى الخوف أو التورط أو حتى التبعية، مهما علا مكانهم الرسمي... إن غياب المناقشة أو الحرية من أجل إتاحة فرص الرأي الآخر، هو ما قاد الأربعة الذين كانوا كبارا إلى الخروج غير الآمن! الأكثر إيلاما أن بعض الوارثين بدأت البطانة تزين لهم ما يفعلونه، وكأن الدروس لم يستفَد منها البتة.

يقال لو كانت الأشياء هي كما تبدو لنا، لانتفت الحاجة إلى العلم، الحجاج الذي أتبناه هنا، أن هناك بنية في مجتمعنا العربي اسمها التواكل والاستسلام، وهما يشكلان معا نمطا يؤدي إلى «فقه الموافقات» بدلا من «فقه المناقشات»، وقد أنتجه تاريخيا ضعف الإحساس بالزمن، وأنانية مفرطة متمثلة في النظام الأبوي المستجد! العمل المسكوت عنه في الإدارة السياسية العربية هو الجسارة فيما يراه المكلف بالمسؤولية تجاه مرؤوسيه ورؤسائه، جسارة لم تقبلها ثقافتنا المعتمدة على الطمأنينة والاستكانة.

كونودليزا رايس في كتابها الذي نشر مؤخرا بعنوان «الشرف العالي»، تقول إن الرئيس الأميركي كثيرا ما يوافق على رأي لجانه الاستشارية، ليس لأنه مقتنع بما يعرضون، ولكن لتفادي فضيحة الاستقالة الجماعية إن عارض رأيا قد درس بحرية واستفاضة من قبلهم! القدرة على الاستقالة وترك المنصب عملية نادرة في محيطنا العربي، وأبو الغيط كان شجاعا عندما قال: «لقد كنت قريبا من الاستقالة ليلة (معركة الجمل)، ولو كانت زوجتي معي وقتها لفعلتها.. فهي ثورية»!

فهل ننصح كثيرا من المسؤولين العرب أن يبقوا قريبين من زوجاتهم ليقولوا في الوقت المناسب: سيادتك لا تعجبني سياستك، هذه استقالتي!! إنهم بعض رجال نرغب أن نراهم.

آخر الكلام:

أثناء الحرب في لبنان عام 2006 لجأ كثيرون إلى سوريا، أرسلت الأمم المتحدة بعثة لمعرفة احتياجاتهم، وجاء تقريرها.. لا يحتاجون إلى شيء، لقد تبنتهم الأسر السورية، وبعد لجوء سوريين إلى لبنان، يأتي بعض الساسة اللبنانيون ليصفوهم بـ«الحثالة»!