الاقتصاد في زمن الاضطراب

TT

علاقة الاقتصاد بالسياسة أشبه بعلاقة البيضة والدجاجة أيهما يسبق الآخر، فمن جهة لا يمكن أن تكون هناك عملية تنمية اقتصادية واقعية وحقيقية ما لم يكن هناك استقرار سياسي وأمني، وعلى الجانب الآخر فإن أهم عوامل الاستقرار السياسي هو وجود تنمية واقتصاد نشط يلبي تطلعات المجتمعات، خاصة الأجيال الشابة منها.

هذا هو التحدي الحقيقي الذي يواجه الدول العربية وهي تدخل عامها الثالث عشر في الألفية الثالثة، وهي فترة مضطربة سياسيا بعد التغييرات التي شهدتها عدة جمهوريات عربية في عام 2011 وما زالت تداعياتها مستمرة حتى اليوم بما في ذلك حرب دائرة على أشدها في سوريا تسببت في انكماش حجم الاقتصاد بنسبة الثلث وفقا لتقارير الأمم المتحدة الأخيرة حول الأزمة هناك.

ونفس الشيء ينطبق بدرجات أقل على الدول العربية التي أكملت عملية التغيير السياسي وقامت فيها أنظمة جديدة مثل مصر وتونس وليبيا واليمن، فالأرقام تشير إلى انكماش الاقتصاد أو تراجع كبير في معدلات التنمية وارتفاع معدلات البطالة بنسب متفاوتة بين هذه الدول وتراجع الاستثمارات المباشرة إن لم يكن تلاشيها، بينما لم يتحقق الاستقرار السياسي بعد، أو حتى على الأقل لم تتضح ملامح التصورات أو الخطط الاقتصادية المستقبلية التي تعالج مشاكل خلل بنيوي في هذه الاقتصادات كان عاملا أساسيا في الانتفاضات أو الثورات التي عصفت بهذه الدول.

المفارقة أنه قبل عام أو عامين من حدوث هذه الانتفاضات والثورات كان الحديث عن هذه الاقتصادات إيجابيا في تقارير المؤسسات الدولية في ضوء الأرقام المعطاة، فهناك في المنطقة طفرة عوائد ناتجة عن ارتفاع أسعار النفط إلى حدود 90 و100 دولار للبرميل وهو ما انعكس على المنطقة كلها، فحتى الدول غير النفطية استفادت بشكل غير مباشر سواء من خلال الاستثمارات المباشرة أو تحويلات العاملين. كانت الأرقام تشير إلى تحسن في نسبة عجوزات الموازنات إلى الناتج المحلي الإجمالي في الدول غير النفطية، واتساع في أنشطة أسواق المالي دفع مثلا البورصة المصرية إلى الصعود بنسبة 1800 في المائة خلال 5 سنوات، وهو ما حدث أيضا في اقتصادات عربية أخرى، وكان هناك بدرجات متفاوتة اتساع في حجم الطبقة الوسطى في هذه المجتمعات.

لكن عوامل الخلل البنيوي في هذه الاقتصادات لم تسمح بأن تترجم هذه الأرقام إلى تحسن حقيقي في مستويات المعيشة أو تقليل الفجوة بين درجات السلم الطبقي بما خلق شعورا بالظلم لدى فئات في المجتمع لا تستطيع الصبر أو لا تعني لغة الأرقام شيئا بالنسبة لها ما دامت لم تشعر بانعكاساتها عليها في حياتها اليومية، والأهم هو أن عوامل الخلل البنيوي تمنع تحقيق ما تسعى إليه القمة الاقتصادية التي افتتحت في الرياض أمس، وهو التنمية المستدامة في المنطقة العربية.

بين أهم عوامل معالجة الخلل البنيوي التي يشترك فيها العديد من الاقتصادات العربية، تيسير دور القطاع الخاص بما يوفر له قيادة عملية التنمية وخلق فرص العمل في إطار قوانين وأنظمة شفافة تحقق عدالة المنافسة في الأسواق، وكذلك قضية الدعم التي تستنزف الميزانيات والموارد وتزداد كل عام، فحسب أرقام عام 2009 كان حجم الدعم لقطاع الطاقة يصل إلى ما يعادل 150 مليار دولار، وهو رقم لا بد أنه تضاعف حاليا مع ارتفاع أسعار النفط، وينسحب ذلك على سلع أخرى بما يخلق أسعارا غير حقيقية في السوق تؤدي إلى تشوهات في بنية الاقتصاد. وكذلك عدم ملاءمة سياسات التعليم مع متطلبات التنمية بما جعل البطالة بين الخريجين هي الأعلى بين الفئات الأخرى في المجتمعات.

قد يكون كل ذلك لا يمكن حله بين يوم وليلة أو في عام أو عامين، لكن لا بد أن تكون هناك رؤية أو خطة واقعية لحل هذه الإشكالات البنيوية، وحلها هو الذي يمهد ويسهل تدفقات رؤوس الأموال وانسياب التجارة البينية وجعل شعار التنمية المستدامة حقيقيا وواقعيا.

أخيرا، قد يكون المناخ الحالي هو مناخ ثورات وتطلعات، ولكن المفارقة أن الحلول ليست واقعية وجافة وغير شعبية.