قمة اقتصادية!

TT

انطلقت في العاصمة السعودية قمة عربية من نوع خاص، تعتمد على الطرح الاقتصادي في أهدافها. الاقتصادات بأهمية السياسة، بل ويجزم الكثيرون بأنها أهم تأثيرا في حياة الشعوب والأمم. الاقتصاد في العالم العربي مجال شديد الأهمية في ظل وجود تباين هائل في القدرات والإمكانيات بين الدول العربية؛ فهناك الهوة المالية التي تفصل بين الدول ذات المداخيل العليا والأخرى ذات المداخيل المنخفضة، وهي ولدت علاقة مضطربة تعتمد بالأساس على «العون» و«الهبات»، وهي حلول قصيرة الأجل لمشاكل طويلة الأجل، وبالتالي غير نافعة ولا مجدية أبدا كما أثبتت الأيام من قبل.

واليوم، هدف القمة العربية هذه هو الانتقال بشكل عملي وبنتائج ملموسة من حال العون والهبات إلى حال التكامل والتعاون الاقتصادي الحقيقي، وهو ما يفسر، تحديدا، نوعية الأفكار والمشاريع المطروحة في هذه القمة، الاستثنائية في ظروفها وفي وقتها. فالقمة تسعى لإحداث تكامل جاد في تطوير البنى التحتية المشتركة للدول العربية بشكل صحيح حتى تحسن المعيشة والخدمات المصاحبة لها وبالتالي مناخ الاستثمار المقدم لها.

والأمثلة في هذا المجال كثيرة جدا، ولعل أهمها وأبرزها ما يخص التكامل المطروح في مجال شبكات مد الطاقة الكهربائية بين دول العالم العربي بشكل عصري وتقني متقدم، وذلك لتلبية القصور الكبير الموجود في شبكات المد الكهربائي في دول كثيرة بالعالم العربي، مماأعاق الكثير من خطط التنمية فيها وحولها إلى عبء كبير على الحكومات فيها. وما ينطبق على موضوع شبكة الكهرباء ينطبق أيضا على شبكة الغاز كطاقة بديلة ونظيفة، حيث يجري العمل على تمديد أنابيب الغاز في أكثر من دولة عربية بشكل متكامل، وذلك سيوفر بديلا مهما للطاقة التقليدية. وطبعا، هناك الطرح القديم المتجدد بشبكات النقل البري المطلوب، وهو يشتمل على الجسور والأنفاق والطرقات السريعة لربط الدول العربية بعضها ببعض لأجل تسهيل وتيسير حركة النقل التجاري وسفر الركاب. وأضيف إليه طموح كبير ومهم آخر وهو شبكة خطوط السكك الحديدية، التي من شأنها أن تفرز حلولا لافتة ومتطورة وآمنة وعصرية لتحدٍّ متزايد.

وتطورت الأفكار المطروحة لتقوم باستهداف رؤوس الأموال والأسواق التجارية العاملة في هذا المجال المتطور، فهناك تطوير مطروح لأنظمة أسواق المال وتنظيم الاستثمار فيها، وذلك لتطوير المناخ الاستثماري ومنع التفاوت النظامي البيني حتى لا يكون المناخ غامضا وبالتالي منفرا لمن يرغب في الاستثمار فيها، وطبعا سيكون نتاج ذلك كله تحسين الحوكمة ورفع مستوى الشفافية فيها، على أقل تقدير.

الهاجس الاقتصادي العربي ليس بالأمر الجديد، فهناك العشرات من المبادرات القديمة والمجالس المنبثقة من جامعة الدول العربية المعنية بالتحدي الاقتصادي، وكذلك عدد غير محدود من القرارات والبيانات. ولكن اليوم، الأمر مختلف، إذ يدرك الكثيرون أن رياح التغيير الجبرية والقسرية التي تهب على المنطقة لها دوافع وأسباب اقتصادية في صميمها، مثل ارتفاع مهول لمنسوب البطالة، وزيادة معدلات الفساد الاقتصادي، وانحسار فرص المساواة في الربح الاقتصادي، وهي أسباب تؤدي إلى عزوف الناس عن الاستثمار، وبالتالي يفقد الاقتصاد مجالات التوظيف والتطوير والتنمية الموعودة، وتتفاقم تبعات الأضرار المتوقعة جراء ذلك.

الاقتصاد وتطويره والتعاون الجاد فيه، قد يكون (لو تم الأمر بجد وبسرعة) فرصة لعلاج الكثير من المشاكل والتحديات، وهو أيضا خطة وقائية ناجعة لمواجهة الأصعب والأمر القادم.

يراقب الناس، بحذر وجدية، مراحل ما بعد القمة وكيف سيتم التعاطي مع المبادرات والقرارات، لأن ذلك هو التحدي الأهم، متذكرين أن أهم التكتلات السياسية الكبرى حول العالم، مثل الاتحاد الأوروبي و«نافتا» و«آسيان» وغيرها، جميعها بدأت بسبب التحديات الاقتصادية الملحة، وبالتالي لا يمكن التقليل من شأن هذا الهاجس أبدا لخطورته الشديدة فيما لو تم إهماله.

[email protected]