قمة الرياض: التنمية في زمن الربيع

TT

الرياض لم تكن كعادتها أمس. وإيقاع العاصمة السعودية لم يكن سياسيا هذه المرة، لغة الاقتصاد تنتصر للتنمية. والإنسان العربي يدلف إلى قاعات القمم العربية ليصبح هو محور الحديث، بدلا من حديث سياسي مكرر أصبحت بياناته تتكرر ومفرداته تحفظ. مؤتمر القمة الاقتصادية رسالة من الرياض بأن محور الثقل الاقتصادي والسياسي يمر من العاصمة السعودية أو كما قال دبلوماسي غربي حضر مراسم افتتاح المؤتمر، إن خريطة العمل العربي من دون السعودية مشروع ناقص. ومن حضر المؤتمر في المركز الفخم للمؤتمرات الذي حرص كثير من أعضاء الوفود المشاركة على تصوير قاعاته وأسقفه، يلمس روحا جديدة في العمل العربي المشترك. فالقاعة تغص بالوجوه الجديدة من المسؤولين ورؤساء الوفود. إنه عالم عربي جديد يتشكل بعد ربيع اختلف كثيرون على تسميته من ربيع إلى خريف، ولكنه في نهاية المطاف واقع جديد يختلف عن ذي قبل.

السعودية قالت كلمتها بالأرقام، ففي كلمة خادم الحرمين الشريفين التي ألقاها ولي العهد الأمير سلمان بن عبد العزيز، طرحت مبادرة زيادة رؤوس أموال الشركات المالية العربية والشركات العربية المشتركة القائمة بنسبة لا تقل عن 50 في المائة لتمكينها من توسيع أعمالها وتعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص مع التزام السعودية بدفع حصتها في الزيادة التي يتم الاتفاق عليها. وهي المبادرة التي استقطبت اهتمام المشاركين ووسائل الإعلام لأنها تتيح لهذه المؤسسات التحرك بميزانيات مريحة وتقدر قيمة الزيادة بنحو عشرة مليارات دولار. واهتم رجال أعمال متابعون للمؤتمر بقضية إقرار القادة اتفاقية استثمار رؤوس الأموال في الدول العربية، وهي تعطي تطمينات لرجال في الاستثمار ووجود مناخ استثماري مناسب عبر تعديل القوانين والنظم والتشريعات. حديث اقتصادي ولغة الأرقام، هذا ما تريد أن تقوله قمة الرياض التنموية.

يقول البعض إن كثيرا من قرارات القمة تعيش أسيرة البيروقراطية، ولذلك كانت كلمة العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز واضحة في أن المرحلة تتطلب تعاملا يتناسب مع معطيات الزمن، وحدد أن القضايا التنموية أصبحت أكثر صعوبة مع وجود الفقر والبطالة والمرض. في حين أن الأمير سعود الفيصل كان صريحا في تحليله للواقع العربي بأن الأزمة في العالم العربي التي أنتجت المتغيرات في الأنظمة العربية هي أزمة تنمية. وقال إن المتغيرات اتخذت أشكالا سياسية في ظاهرها، إلا أن مسبباتها الحقيقية هي في الجوانب التنموية. وهو يشير إلى أن الشعوب العربية لا يمكن تجاهل طموحاتها نحو حاضر مشرق ومستقبل مزدهر.

ويرى كثيرون أن مشكلة الدول العربية ليست مشكلة قرارات، بل هي مشكلة التزام. وقد لامس الأمير سعود النقطة بوضوح عندما أكد على وجوب المصداقية وجدية العمل للتمكن من التغلب على العقبات. وبدا واضحا أن المؤتمر الذي شهد حضورا كثيفا من رجال الدولة السعودية في يومه الأول في رسالة واضحة كالتزام من الدولة لنجاح المؤتمر وكانت الصالات الخارجية في مركز الملك عبد العزيز للمؤتمرات تغص بالحاضرين من سياسيين وشخصيات عامة وإعلاميين وهم مدعون لحضور الجلسة الافتتاحية والختامية ولكنهم يكونون خارج القاعة الرئيسية خلال الجلسات المغلقة. وحرص الوزراء السعوديون على التمازج مع الضيوف خلال هذه الفترات وكان الصحافيون اللبنانيون يلتفون حول صديقهم وزير الإعلام الحالي والسفير السابق في بيروت الدكتور عبد العزيز خوجه الذي كان يتقبل النقاش والأسئلة التي كانت تدور حول مستقبل لبنان في حضور السفير السعودي المتمرس وصاحب العلاقات الكبيرة عواض عسيري. بينما في الجانب كان رجال أعمال واقتصاديون يحيطون بوزير البترول السعودي علي النعيمي وهو الذي عرف عنه تحاشيه لوسائل الإعلام ويعتبره كثيرون واحدا من أكثر خبراء النفط في العالم دراية بتفاصيل هذه الصناعة.

ميزة لقاءات المؤتمرات أنها تجمع نخبا مختلفة تجد في اجتماع كهذا فرصة لبناء علاقات وفتح حوار حول المستقبل، ورغم أن أهالي العاصمة السعودية يتحملون ضريبة نتيجة إقامة هذه المؤتمرات في مدينتهم نتيجة إغلاق شوارع مهمة والانتشار الأمني المكثف، فإن حركة الوفود والانضباط الأمني كانت في أفضل حالاتها. وكذلك تجهيزات المؤتمر وسلاسة حركة الوفود أعطت صورة إيجابية عن قدرة السعودية على إدارة مؤتمرات كبيرة. وكان المؤتمر منظما في وقته وإدارته، وحرص رئيسه ولي العهد الأمير سلمان على التقاء رؤساء الوفود ومحادثتهم. وخلال حفل العشاء الذي أقامه لضيوف المؤتمر التقى كثيرا من أعضاء الوفود في أحاديث جانبية، وقد شارك صحافيون وكتاب في هذه النقاشات.

اللغة الجديدة في العالم هي الاقتصاد، وقد تنبه العرب إلى أهمية هذا الموضوع، وتخصيص قمم عربية اقتصادية هو تفكير صحيح ويخدم الأجيال العربية. ويفترض حصر كلمات ومشاريع المؤتمر في الشأن الاقتصادي، وحينما تدخل السياسة في الكلمات تتحول إلى مطولات، حيث استغرقت كلمة الرئيس المصري ثماني وثلاثين دقيقة، وعلق صحافي مصري كان من الضيوف الرسميين بأن لغة العصر تغيرت، فالمطلوب كلمة مختصرة ومباشرة. عالم عربي جديد يتشكل الاقتصاد هاجسه، والتنمية لغته. والقيادات العربية مطالبة بأن تتواكب مع هذه اللغة الجديدة والاستعداد للمستقبل بلغته وشروطه. فعجلة الزمن إيقاعها أسرع، وطموحات الأجيال الجديدة أصبحت أكبر.