التبرير لـ«القاعدة»: الجحر الذي نلدغ منه مرات!

TT

إذا كنت تعتقد أن من حق أي جماعة متطرفة إعلان الجهاد، ورفع السلاح والخروج على الدولة بحجة تطبيق الشريعة، أو بناء معسكرات تدريب وتهريب السلاح، واستقبال أفواج من المقاتلين من كل أنحاء العالم، فلا تتعب نفسك بقراءة هذا المقال، ولتفعل ذلك إذا كنت تظن أن ثمة حربا صليبية دينية ضد الشعب المالي تقودها فرنسا، وليس المجتمع الدولي، بدعم وطلب من حكومة مالي المحلية، التي لديها مع فرنسا اتفاقيات حماية تمتد إلى مرحلة ما بعد الاستعمار.

بالطبع إذا كنت من «قاعدة التبرير» وهم يملأون الأرض طولا وعرضا مدافعين عن فكر تنظيم القاعدة مع ادعائهم الوسطية والاعتدال والعمل السلمي، شريطة أن لا يمس عمل التنظيم بلدانهم، فخلافك مع تنظيم القاعدة هو خلاف في الفروع وليس الأصول في التكتيك وآلية العمل، وليس الأهداف العامة، وعلى رأسها تطبيق الشريعة على الطريقة الطالبانية، وقسر المجتمع على قناعات متطرفة، عبر بث الفوضى والترويع والتهجير.

عزيزي القارئ إذا كانت مصادر تكوين رأيك هي «تويتر» وأخواته، فأرجو أن لا تغلق متصفحك واذهب إلى الـ«يوتيوب»، وابحث عن فيلم وثائقي من ساعتين عن الطوارق وطالبان أفريقيا، وهو فيلم تبجيلي لمتعاطفين يوثق مسيرة «القاعدة» في تلك المنطقة، وستجد حديث قيادات التنظيم عن أفكارهم المتطرفة كحال كل الأذرع الإعلامية للتنظيمات المتطرفة في التبرير لإرهابها واستهدافها للأجانب وكل الشخصيات المناوئة لها، بمعنى آخر هو توثيق ومقابلات حيّة مع التنظيم يساعدك في فهم ما يجري بعيدا عن شغب «تويتر» وضجيجه.

لـ«القاعدة» في مالي وشمال أفريقيا تاريخ طويل يمتد لأكثر من 10 سنوات، حيث تمركزت مجموعات صغيرة من التنظيم في منطقة أزواد الصحراوية في الطرف الغربي لصحراء شاسعة تتصل حدودها بمالي والنيجر والجزائر، وفي 2004، أصبح المختار بن محمد بن المختار (جزائري من مواليد 1972) المعروف باسمه الحركي خالد أبو العباس أميرا للصحراء، بعد تعيينه من قبل عبد الملك دوركدال المعروف بـ«أبو مصعب عبد الودود».

وبعد استقرار الأول في الصحراء، نشط في نشر الدعوة في المجتمع الأزوادي بشقيه العربي والطوارقي ومجموعات «الزنوج»، وكما هو الحال حين تغيب مركزية الدولة ودورها في الاستقرار وتلبية الحد الأدنى من أساسيات العيش، ومنها الأمن، فإن هذا يشي بولادة «القاعدة» متى ما توفرت هذه الظروف المثالية من غياب الأمن وانتشار الفوضى وسهولة تهريب السلاح ووقوع المنطقة بين دول تعيش أوضاعا غير مستقرة، لا سيما ليبيا التي ساهم مقاتلوها في مرحلة ما بعد سقوط القذافي في تكوين أكبر منطقة للسلاح واستقطاب المقاتلين.

لاحقا، انفرطت سبحة التنظيمات المسلحة في المنطقة، وبلغت حتى الآن أكثر من 10 تنظيمات تختلف في التفاصيل الصغيرة، لكنها، وفقا لصورة مكبرة، تحاول بعث التجربة الطالبانية من جديد لكن بنفس أممي يستهدف المصالح الغربية، والأخطر أنه يملك زمام «الحدود» لكل الدول المجاورة لمالي، وصولا إلى تونس والمغرب وليبيا، بحيث يستطيع خلق ممرات آمنة وسهلة التنقل لعناصره، وبالطبع ساهم «تململ» المجتمع الدولي من الحرب الطويلة على الإرهاب والربيع العربي في غض النظر عن هذا النشاط الكبير لـ«القاعدة» هناك، كما أن تردي الحالة الاقتصادية وعدم الرغبة في الدخول في أتون معارك جديدة جعل الولايات المتحدة تعامل «القاعدة» على طريقة: دعوني ما تركتكم، وهذا ما نراه جليّا في الحالة اليمنية التي يتخلق فيها التنظيم في جنوب اليمن مكررا تجربة مالي لكن برؤية مختلفة تستهدف الاستقرار أكثر من استعداء الغرب وجلبهم للمنطقة.

اللافت في الأمر نبوءة القذافي حول انفجار الأنبوب القاعدي في المنطقة في حال سقوطه، وهو ما يؤكد العلاقة التي كانت بين نظامه والمجموعات المسلحة ذات الطابع الثوري، والتي كانت تحوي قيادات من أزواد لم تتحول إلى الخط القاعدي إلا بعد سقوطه، كما الحال في قصة الزعيم التقليدي إياد غالي، وهو من أبناء القيادات التاريخية لقبائل الايفوغاس الطوارقية، وكان غالي قد قاد في بداية التسعينات من القرن الماضي تمردا ضد الحكومة المالية انتهى بتوقيع اتفاقية السلام بين الحكومة المالية والمتمردين الطوارق عام 1992، وانتقل للعمل الدبلوماسي قنصلا عاما لجمهورية مالي في جدة، قبل أن ينتهي به المطاف مجددا إلى اعتناق فكر تنظيم القاعدة وتأسيس «حركة أنصار الدين»، بعدما نجح في استقطاب المئات من أبناء قبيلته الايفوغاس وقبائل طوارقية أخرى، وعقب مرحلة التأسيس التي تمت في معزل عن العالم كله المشغول بالربيع العربي والتمجيد له، تم الانتقال لمرحلة الاندماج مع تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، وهو الأمر الذي يعيد التحالف ذاته بين تنظيم القاعدة وطالبان في مرحلة ما بعد سقوط كابل.

لكن التاريخ لا يعيد نفسه دائما بالوتيرة ذاتها، وهنا أزعم أن هذه الموجة الخامسة من تنظيم القاعدة المتمثلة في التحالف مع «القبيلة» ستكون أكثر عنفا ودويا بحكم الحدود المفتوحة على مصراعيها، وأيضا سهولة استقطاب المزيد من الأنصار، والعمل الدعائي غير المسبوق بحجة أنها حرب «صليبية»، وهو شعار كان من المفترض أن يتحول إلى «مزحة» مكشوفة، لا سيما أن «مالي» بلد العلم والعلماء والطرق الصوفية والمحاضر، وهم أكثر الرافضين لجسد «القاعدة» الطارئ عليهم. وليس من سبيل الاستطراد القول إن «مالي» خرّجت كثيرا من العلماء الكبار في العالم الإسلامي، وكانت محطّة لاستقطاب طلبة العلم بالطرائق التقليدية ذات الامتداد التاريخي عبر دراسة المتون وأخذ الإجازات، تشرفت بالدراسة على العلامة النحوي محمد الصالح التنبكتي الأنصاري (رحمه الله)، الذي درس في المسجد الحرام على مدى 20 عاما، بعد أن هاجر إلى المملكة هو والمحدث الكبير حماد الأنصاري والعلامة المحدث إسماعيل الأنصاري عضو هيئة كبار العلماء وأحد أهم الشخصيات العلمية المؤثرة في تيار السلفية العلمية في السعودية، وكل هؤلاء تعود أصولهم إلى «مالي».

فإذن فكرة تطبيق الشريعة التي يرفعها تنظيم «أنصار الدين» هي تماما كهشاشة فكرة «الحرب الصليبية» لا تستند إلى حقيقة على الأرض، وإنما متخيّل يحاول المتطرفون الترويج له، فالمجتمع المالي متدين في مجمله سني مالكي المذهب يميل للتصوف الروحاني بمنطقه الزهدي، الذي يتناسب مع طبيعة صحراء تلك المنطقة الجميلة.

الوضع خطر في مالي. والحرب التي تقودها فرنسا، وإن كانت بطلب من أهل الديار، ربما سحقت التنظيمات القاعدية وأبعدتها عن المدن الرئيسية، لكنها ستُكسبها شرعية بسبب المظلومية التي سيغدقها عليها الفرنسيون بضرباتهم، كما أن وقوع ضحايا مدنيين في حال اختباء أعضاء التنظيم داخل المدن سيحول الوضع إلى كارثة إنسانية، وبالتالي ستتحول الصحراء إلى منطقة جاذبة للجهاديين في العالم كله، الذين بدأوا يتململون من الأوضاع في الربيع العربي حيث التغيير ووصول فصائل إسلامية لسدة الحكم لم يهذب من شراسة هذه التنظيمات، بل قادها إلى إعادة ترتيب نفسها لتصبح أكثر قوة وجاهزية، كما هي الحال في تنظيم القاعدة في جزيرة العرب المتمركز في اليمن، والحال ذاتها في المجموعات المسلحة في سيناء، وتلك التي تقاتل في الداخل السوري، وصولا إلى الصومال الذي يحاول التنظيم هناك بذكاء عدم لفت الأنظار إليه، في ظل منافسة قوية مع فصائل إسلامية معتدلة.

مكمن الخطر في حالة «مالي» هو التنظيمات المسلحة قائمة على فزر «قبلي»؛ فالقبيلة تعتنق التنظيم، وليس الحال كما في تاريخ «القاعدة» أنها تفتت القبيلة وتدمجها في نسقها العام، في مالي «التنظيم الجهادي» لأبناء قبائل الطوارق، و«التوحيد والجهاد» للعرب المنشقين عن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب، و«أنصار الشريعة» يمثل باقي العرقيات.

لبّ القصيد في حالة «مالي» كما هو الحال في التعامل مع «القاعدة» هو أن الحلول الأمنية والحرب المضادة لا تعطي سوى نتائج محدودة وقتية مع آثار سلبية على الأهالي المدنيين، لا يمكن أن يوجد حل في بلد دخله تنظيم القاعدة إلا بإعادة بناء الدولة سياسيا وديمقراطيا واقتصاديا وأمنيا، وهذا ما لم يعِه الأميركيون في حربهم الطويلة على الإرهاب، ويبدو أن الفرنسيين أيضا لم يستوعبوا الدرس.

[email protected]