العفو فضيلة وحكمة

TT

الانتقام سنة الوحشية والعفو سنة المدنية، ولكن بين الاثنين ما يمكن تسميته بشعرة معاوية، فإحقاق العدالة وإقامة النظام كثيرا ما يتطلب الردع والقصاص ممن يخرج عنه، في حين أن العفو يفتح صفحة وفرصة جديدة.

الموازنة بين الجانبين أساس الملك، وبورك من حظي بها.

سبق لمعظم الأنبياء أن تحلوا بفضيلة العفو. برز منهم هنا السيد المسيح عليه السلام وشاعت بين الناس كلمته الخالدة «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الآخر». وعندما هم قومه برجم امرأة زانية أوقفهم وقال «من كان منكم بلا خطية فليرجمها». وأصبحت قصته مع بائعة الهوى مريم المجدلية من أروع قصص الإيمان والأدب والفن. أصبح سلوك السيد المسيح من مصادر الوحي للكثير من رواد الجهاد المدني، كتولستوي وغاندي ومارتن لوثر كينغ ومانديلا، «أحبب عدوك» شعارهم الأبدي.

سبق لي أن ذكرت أن القرآن الكريم يحثنا على العفو في ما لا يقل عن 142 آية، وهذه بعض ما ورد منها:

«وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم» (التغابن 14).

«إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا» (النساء 149).

«خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين» (الأعراف 199).

«وليعفوا ويصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم» (النور 22).

وقد روى الرواة أحاديث وسننا نبوية كثيرة توازي ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم: «ارحموا تُرحموا واغفروا يغفر الله لكم». وأيضا في مناسبة أخرى: «ما من جرعة أعظم عند الله من جرعة غيض كظمها عبد ابتغاء وجه الله».

وهكذا أصبحت التوبة والمغفرة من الأسس الرئيسية لعقيدة المسلم. كل هؤلاء الحجاج الذين يفدون إلى مكة المكرمة ويقفون على جبل عرفات، يحدوهم أمل واحد وهو أن يحصلوا على الغفران لخطاياهم. وإذا كان الخالق الجبار مستعدا لغفران آثامنا وخطايانا، فما بال المخلوق يتعصب ويصر على العقوبة والانتقام؟ ولنبينا الكريم أمثلة رائعة في هذا السياق؛ كان منها ما تعلق بالزنى إلى الحد الذي يجعل إثباته في حكم المستحيل تقريبا، حتى شاعت بين أهل القانون كلماته «هل رأيت الميل في المكحلة؟» من باب التشدد في الإثبات والتخفف عن الخطيئة.

وكانت له مواقفه المشهودة في رفض العنف. رمى بعض المشركين قاذورات عليه لإهانته فجرد صحابته سيوفهم للانتقام من المعتدي، ولكنه نهاهم فورا عن ذلك وقال «ما بعثت لأقاتل».

وامتدادا لهذا الموقف خالف أصحابه أيضا في عقد صلح الحديبية مع المشركين.. اعترضوا عليه لتساهله مع الكفار، ولكنه آثر الصلح والسلام على مواصلة النزاع. وكانت البوابة التي فتحت الكعبة للمسلمين مما أدى في الأخير إلى شيوع الإسلام في عموم الجزيرة العربية. وكان «فتح مكة» من أهم إنجازات النبي في سجل دبلوماسية السلام واللاعنف. وفي قوله «من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن» مثل رائع في تجارب العفو.