لبنان.. والحنين إلى القائمقاميات

TT

غريب ألا يستقر اللبنانيون على حالة طائفية معينة في نظامهم السياسي.

ورغم أن هذه الحيرة، بحد ذاتها، مؤشر على أن النظام الطائفي لم يعد الحل المطلوب لعلاقة اللبنانيين بوطنهم – وبعضهم ببعض – فإن تأييد معظم الأقطاب المسيحيين لمشروع قانون انتخاب ينص على تفرد كل طائفة بانتخاب نوابها بمعزل عن مشاركة أبناء الطوائف الأخرى، ظاهرة سياسية لافتة توحي بحنين مسيحي دفين إلى حالة «سلفية تاريخية» تعود إلى عام 1840 - عام تحول جبل لبنان، بقرار دولي، إلى قائمقاميتين مذهبيتين: واحدة للمسيحيين والأخرى للدروز.

ورغم أن نظام «تطييف» لبنان لم يصمد أكثر من عشرين سنة، فإن طرح مشروع قانون انتخابي يحول لبنان إلى 17 قائمقامية مذهبية، مهما كانت جديته، طرح يوحي بأن بعض الأقطاب اللبنانيين لم يستوعبوا بعد عبر تاريخهم القريب.

لا جدال في أن نجاح تيارات إسلامية متشددة في «مصادرة» ما كان يعتقد أنه بداية ربيع الديمقراطية في العالم العربي، يطرح بقوة وضع الأقليات المذهبية في العالم العربي، واستطرادا مصيرها. ومع ذلك، إذا كان تيار «التمذهب» شعار المرحلة الراهنة في الشرق الأوسط، فإن آخر من يستفيد من ركوب موجته هم دعاة ما سمي قانون الانتخاب «الأرثوذكسي»، أي مسيحيي لبنان... وأقلياته الأخرى استطرادا.

من أغرب مفارقات اللعبة السياسية في لبنان، أن يتنكر مسيحيوه اليوم للضمانة التي وفرها لهم اتفاق الطائف بتأسيسه نظام المناصفة في السلطة (بين المسيحيين والمسلمين) ليطرحوا نظاما انتخابيا، من شأنه، إن طبق، أن يزيدهم تهميشا بما سيفرزه من بتر لتواصلهم السياسي مع الطوائف الأخرى.

نظام المناصفة أفضل معادلة سياسية توصل إليها مسيحيو لبنان، في ظل اتساع الفجوة الديمغرافية في بلدهم لصالح المسلمين. وليس سرا أن الكثير من المسيحيين يعترفون بأن التحولات الديمغرافية في لبنان لم تعد لصالحهم، مما يعني توقع استمرار تقلص أعدادهم، في حقبة يضمحل فيها الوجود المسيحي كله في دول الشرق الأوسط قاطبة.

وسط هذه المعطيات، كان يفترض أن يتمثل رد الفعل المسيحي بمزيد من التمسك «بالديمقراطية التوافقية» التي أرسى قواعدها اتفاق الطائف، مقرونة بالدعوة إلى تطبيق البنود المهملة من اتفاق الطائف – وفي مقدمتها اقتراحه «مساواة» الطوائف اللبنانية سياسيا، عبر إقامة مجلس شيوخ تتمثل فيه بالتساوي كل المذاهب اللبنانية.

ولكن، ما حدث كان نقيض المتوقع: الدعوة إلى تفرد كل طائفة لبنانية بانتخاب نوابها بمعزل عن مشاركة أبناء الطوائف الأخرى وبالتالي تكريس كونفيدرالية الملل والنحل غير المعلنة.

مؤسف أن يحسب مشروع قانون الانتخاب المذهبي على اسم الطائفة الأكثر ليبرالية في لبنان، خصوصا أن أخطر تداعياته تتمثل بقطع التواصل السياسي بين أبناء الوطن الواحد وإضعاف الاهتمام بالقضايا العامة التي تستدعي موقفا لبنانيا جامعا.

ولكن الضحية الأولى لمشروع القانون «الأرثوذكسي» ستكون الديمقراطية التوافقية التي تتيح للأقليات اللبنانية، وفي مقدمتها المسيحيون، مشاركة دائمة - وإن كانت مجحفة أحيانا - في القرار السياسي اللبناني. فإذا كان هذا القانون «يحرر» الناخب المسيحي من «تدخل» ناخبي الطوائف الأخرى في خياره الانتخابي، فإنه، بالمنظار نفسه، يعتق أبناء الطوائف الأخرى من تبعات «مراعاة» الناخب المسيحي في انتخاباتهم - أي إنه ينقل لبنان من نظام الديمقراطية التوافقية إلى شكل من أشكال الديمقراطية المذهبية، إن صحت تسميتها بالديمقراطية في هذه الحالة.

ومهما قيل عن رجحان كفة التأثير الإسلامي، عدديا، على التأثير المسيحي في ظل قانون الانتخاب الحالي، يصعب التقليل من دور الناخب المسيحي في ترجيح لائحة على أخرى في الكثير من الدوائر الانتخابية، وخصوصا دوائر جبل لبنان.

باختصار، إذا كان أوضح نظام طائفي اختبره لبنان، أي نظام القائمقاميتين، لم يصمد أكثر من عشرين سنة (1840 – 1860)... فكيف يمكن لنظام السبع عشرة قائمقامية أن يبني وطنا حاضنا لجميع أبنائه؟