مشروبات الطاقة والدراسات الطبية

TT

من أسوأ أوجه استغلال نتائج الدراسات الطبية في الإثارة الإعلامية هو توجيهها لبناء معلومة طبية غير صحيحة، أو على أقل تقدير غير ثابتة علميا. دعونا نراجع التقرير الطبي التالي الصادر في السادس عشر من يناير (كانون الثاني) الحالي، وما تبعه من سيل التقارير الإخبارية ذات العناوين البراقة إعلاميا. التقرير صدر عن الإدارة الأميركية لخدمات إدمان المواد والصحة العقليةU.S. Substance Abuse and Mental Health Services Administration، وفيه أشارت الإدارة المذكورة إلى أن فيما بين عام 2007 وعام 2011 ارتفع عدد زيارات الأميركيين لأقسام الإسعاف ER visits بالمستشفيات، بسبب تناول أحد أنواع مشروبات الطاقة energy drinks من 10 آلاف زيارة إلى 21 ألف زيارة. وأن في 42% من تلك الزيارات عام 2011 كان نتيجة تناول مشروبات الطاقة مقروناً بتناول أحد المواد الإدمانية أو المشروبات الكحولية. وأن غالبية الحالات تلك كانت بين فئة الشباب.

انتهت المعلومات المستمدة من التقرير الطبي في تلك التقارير الإخبارية. ثم بدأت تلك التقارير الإخبارية تنسج استنتاجات خيالية مفادها أن ثمة ارتفاعاً بنسبة 100% في عدد زيارات أقسام الإسعاف نتيجة لتناول مشروبات الطاقة تلك، وأن ثمة ضرورة لوضع قوانين صارمة للحد من تناولها، والسبب هو ذلك الارتفاع الحاد في نسبة مراجعي أقسام الإسعاف بسببها! نحن هنا، وبناءً على نتائج التقرير الطبي لا نناقش نتائج دراسات طبية أثبتت علميا أي أضرار واضحة من نوعية علاقة السبب والنتيجة. والتقرير الطبي لم يشر إلى أنه ثبت من مراجعة تقارير أطباء أقسام الإسعاف أن تناول المراجعين أولئك لمشروبات الطاقة أدى بهم إلى الشكوى من أعراض تهدد سلامة حياتهم وتستدعي الحضور إلى أقسام الإسعاف. التقرير ببساطة يقول لنا فقط، وبلغة علمية دقيقة، إن ثمة ارتفاعاً بمقدار 11 ألف زيارة لقسم الإسعاف في عام 2011 بالمقارنة مع عام 2007. وأن هناك نسبة عالية من متناولي مشروبات الطاقة يمزجونها أو يتناولون معها مشروبات كحولية أو مواد إدمانية.

وبشيء يسير جداً من التأني في القراءة والمراجعة العلمية، حتى غير العميقة، دعونا بداية نقارن بين عدد زيارات الإسعاف بالولايات المتحدة فيما بين كل من عام 2007 وعام 2011. والمصدر الوحيد والرسمي للإحصائيات الطبية في ذلك التقرير الطبي، وغيره من التقارير الطبية بالولايات المتحدة عن زيارات أقسام الإسعاف، هو الإحصاء القومي السنوي للرعاية الصحية الخارجيةNational Hospital Ambulatory Medical Care Survey. والرعاية الصحية الخارجية Ambulatory Medical Care مصطلح طبي يقصد به جميع المرافق الصحية التي تقدم رعاية صحية خارج نطاق الدخول للتنويم بالمستشفي، مثل العيادات الخارجية والمستوصفات وأقسام الطوارئ وغيرها. ووفق مراجعة تقارير هذا الإحصاء القومي السنوي، كان عدد المراجعات لأقسام الإسعاف عام 2007 هو 117 مليون زيارة. وفي عام 2011 أمسى عددها 136. 1 مليون زيارة. وإذا أردنا أن نتحدث فقط عن أرقام مجردة فإننا فقط أمام ارتفاع بمقدار 19 مليون زيارة. وإذا أردنا أن نتحدث فقط عن مجرد أرقام، فإن إحصائيات حجم سوق الاستهلاك تشير إلى ارتفاعات بنسبة تتجاوز 100% لاستهلاك عموم الناس لمشروبات الطاقة. وعليه، علينا أن نشمل في تقييم مقارنة ارتفاع عدد زيارات أقسام الإسعاف بارتفاع مبيعات تلك المشروبات. هذا ناهيك عن أهمية وأولوية البحث في أسباب زيادة عدد زيارات الإسعاف بمقدار 19 مليونا قبل البحث عن سبب واحد «ربما» أدى إلى زيادة بمقدر 11 ألفا.

والطريف، وربما المثير للريبة، أن جميع التقارير الإخبارية الصحافية تلك لم تنس الإشارة إلى أن ثمة طيفا واسعا لاحتواء الأنواع المختلفة من مشروبات الطاقة لكمية مادة الكافيين التي يرجع إليها «تخميناً» و«تخريصاً» و«رجماً بالغيب» ذلك «الارتفاع» في زيارات الإسعاف. ومع اعترافها بأن هناك مشروبات طاقة تحتوي في عبوتها على نحو 80 مليغراما من الكافيين وأخرى على 500 مليغرام من الكافيين، فإنها أيضاً تشير إلى حقيقة مفادها أن كوب القهوة به بحجم 5 أونصة (الأونصة نحو 29 مليلترا)، يحتوي 100 مليغرام كافيين، وبمقابل هذا كله لا تنسى أن تقول لنا إن عبوة واحدة من أحد مشروبات صودا الكولا بحجم 12 أونصة تحتوي على 50 مليغراما من الكافيين! وكأنه تلميح «خفيف» إلى أن مشروب كولا هي «أفضل» لجهة الاحتواء على الكافيين. والمتابع لمجموعات من التقارير الطبية الموجه ضد مشروبات الطاقة في السنوات القليلة الماضية، يلحظ تلمحيا مصاحبا لعدم احتواء مشروبات الكولا الغازية على نفس كمية الكافيين، وثمة مراجعات طبية أشارت صراحة في تعليقاتها على بعض من تلك التقارير إلى وجود تنافس قوي بين شركات تنتج تلك المشروبات وأخرى تنتج المشروبات الغازية الأخرى. وما على الأوساط الطبية هو عدم الانسياق في متاهات المنافسات التجارية ومحاولات استخدام الدراسات الطبية في غير أهدافها العلمية. ومن أمثال هذا التقرير الطبي المذكور أعلاه، والصحيح في محتواه، لا تستخلص نتائج تبنى عليها نصائح طبية لعموم الناس حول ما إذا كانت مشروبات الطاقة آمنة صحياً أو غير آمنة. ومجال إثبات الضرر أو نفيه لا يكون عبر تقارير تتحدث عن نسبة تناول زائري أقسام الإسعاف لتلك المشروبات قبيل زيارتهم لها، وإلا نحتاج إلى معرفة عدد الذين شربوا الماء قبل زيارة قسم الإسعاف، أو عدد الذين شاهدوا التلفزيون قبل تلك الزيارة، أو شربوا الشاي قبلها أو تناولوا شطيرة من الجبن أوالمربي، ومن ثم هل لنا أن نستنتج أن ثمة أضراراً لشرب الماء أو تناول شطيرة الجبن بالمربى!

* استشاري باطنية وقلب

مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]