ولاية أوباما الثانية.. خريف الديمقراطية

TT

لم تكن الدماء التي سكبها الإرهاب «القاعدي» بآيديولوجية سيد قطب (مع جرائم تهريب المخدرات والابتزاز بالخطف) جفت عند تنصيب باراك أوباما رئيسا لفترة ثانية.

كزملائهم في أوروبا، تنفس مثقفو اليسار العرب الصعداء لأن مؤدي يمين الرئاسة كان بطلهم أوباما وليس ميت رومني. هل شاركهم التفاؤل ضحايا «شبيحة» بشار الأسد أو بنات المدارس الأفغانيات والممرضات الباكستانيات؟

جورج دبليو بوش، هدف هجوم اليسار أتاح لبنات أفغانستان فرصة التطعيم ضد المرض والدراسة بعد عقد من الجاهلية.

هل تشارك أسر الجزائريين العاملين في مركز غاز أميناس مثقفي اليسار فرحة إعادة تنصيب رئيس يجيد البلاغة ولم يتخذ إجراء عمليا يذكر يقارن بالخطوات الشجاعة، والمكلفة للخزانة والأرواح الأميركية التي اتخذها سابقه من أجل الحفاظ على حقوق وحياة الإنسان؟

60 ألف ضحية سورية سقطت لأن نظام البعث (غير المنتخب) حول مسيرات مواطنين تطالب بحقوقها المدنية إلى حرب أهلية. ما هي خطة أوباما لمنع وصول ضحايا الأسد إلى 100 ألف هذا العام كما يتوقع المراقبون؟

لم ينظم مثقفو اليسار وزعماء الاتحادات العمالية وجمعيات التضامن مع منظمات العنف في العالم الثالث مظاهرات تدين السياسة الأميركية أثناء مراسم تنصيب أوباما كما فعلوا مع سابقه بوش، ولم تبدأ «الجزيرة»، و«المنار»، و«برس تي في»، ومثيلاتها نشرات الأخبار بتقارير «الثمن الدموي الفادح لاحتلال العراق وأفغانستان».

ضياع حياة إنسانية واحدة في العراق أو أفغانستان تراجيديا مكروهة، لكن هل فكرنا في أعداد الضحايا لو كان نظام صدام حسين لا يزال في قصور بغداد أو لو كان الطالبان وإرهابيو «القاعدة» يحكمون كابل؟

من صفحات الأرقام في كتاب التاريخ يمكن حساب الفارق بين الضحايا الإنسانية عندما يقف العالم متفرجا وبين التدخل الدولي. إنه ليس بضعة آلاف بل أحيانا ملايين الأرواح.

دروس التاريخ من الحرب العالمية الثانية ومعسكرات الإبادة التي أقامها النازي، والتي كانت ستشمل كل أوروبا والشمال الأفريقي والمشرق وجنوب شرقي آسيا إذا كان موقف الحلفاء متفرجا كموقفه من سوريا اليوم.

ومن سنواتنا المعاصرة، كتسعينات القرن الماضي، نحسب نتائج التدخل في البوسنة ثم كوسوفو (وكلها تدخلات لصالح المسلمين - ردا على من يدعو لأممية جهادية إسلامية ويدين استجابة فرنسا لنداء حكومة مالي ويعتبرها حربا صليبية)، مقارنة بمذابح إبادة وتطهير عرقي أهلكت ستة ملايين في الكونغو، ومليونا في رواندا، و300 ألف في دارفور نتيجة عدم التدخل أو تأخره.

عند التجرد من الآيديولوجيات، والتخلص من الإدمان الفكري على مخدر كراهية الآخر، ننظر إلى التدخل الدولي من عدسة واحدة فقط اسمها المحافظة على الحياة الإنسانية.

وتوقيت التدخل بالغ الأهمية (لقي مائة ألف حتفهم أو اختفوا في البوسنة قبل التدخل) ليس فقط لإنقاذ الحياة الإنسانية وقت الصراع، بل إنقاذا للأرواح في المستقبل ولحياة أطفال لم يولدوا بعد.

خذ حالة سوريا مثلا. صحيح أن الموزايك العرقي والمصالح الطبقية والخلفيات الثقافية أدت إلى تمتع النظام بتأييد عدة مجموعات وتيارات تطيل أمده، لكن انتهاء نظام البعث إلى مزبلة التاريخ نفسها التي يتحلل فيها جسد البعث العراقي أمر متوقع عاجلا أو آجلا. المفارقة أن مقاومة النظام لموجة الانسياب الطبيعي للتاريخ تزيد من ردكلة الحركات المتطرفة الجهادية، والتي قد تستولي على كل سوريا، أو على معظمها إذا انكمش النظام الأسدي إلى منطقته العلوية قرب اللاذقية. عندها يبدأ فصل جديد من الحرب الأهلية أكثر دموية ووحشية باتجاه الإبادة العرقية.

وإذا كان ضحايا الحرب الأهلية في سوريا اليوم 60 ألفا بأرقام المنظمات الدولية، فكم سيبلغ الرقم في الفصل الثاني من الحرب، خاصة مع تقارب وتحالف المجموعات الإسلامجوية المتزايدة التردكل مع تنظيمات إرهابية كـ«القاعدة» (والأدلة بالصور والتسجيلات على وجود مقاتلين يرفعون أعلام «القاعدة» في سوريا)؟

هذه التنظيمات لا تحتقر الفرد ولا تحفل للحياة الإنسانية فحسب، بل إن أسلوبها المفضل هو الإبادة الجماعية على الطريقة النازية الهتلرية، ليس بالغاز السام، بل بالشاحنات المفخخة والانتحاريين في الأسواق والمصلين يوم الجمعة.

من الضروري تذكير المثقفين اليساريين والليبراليين العرب بأن الحرب على الإرهاب لم تنته عندما غادر بوش البيت الأبيض، أو عندما ألقى أوباما بخطابه في القاهرة ليسحرهم ببلاغته، أو عندما أمر القوات الخاصة بالإجهاز على أسامة بن لادن في مخبئه بشمال باكستان.. بل على العكس نشطت عصابات الإرهاب من ساحل الصومال حتى مالي والجزائر بآيديولوجية مجنونة في تعطشها للدماء (خاصة دماء المسلمين الرافضين لتفسيرها للدين).

في فترة رئاسته الأولى اتخذ أوباما القرارات الخاطئة في توقيتات خاطئة.. فقد أعلن توقيت جدول زمني للانسحاب من أفغانستان بطريقة أوحت للطالبان، بسخرية مبكية، أن الثمن الوحيد الذي سيدفعونه من أجل الاستيلاء على البلاد هو قليل من الصبر وضبط النفس حتى ترحل القوات المتعددة الجنسية.

بدا مترددا وغير واثق القرار في بداية الثورة الليبية (ولولا موقف فرنسي بريطاني - ونادر للجامعة العربية - مشترك لذبح القذافي وأولاده نصف شعب ليبيا: «بيت.. بيت.. وزنقة.. زنقة»).

نسي أوباما الدستور الأميركي وداس أحلام ثوار التحرير بصفقة مع أعداء الديمقراطية في «الخريف العربي». سحب أوباما القوات من العراق بلا تأمين استراتيجية للمستقبل تاركا ما بين النهرين للنفوذ الإيراني ليهدد الخليج كله. لم يتخذ إجراءات تذكر (مقارنة بسابقيه بوش الابن، وكلينتون، وبوش الأب) لتأمين مخاوف الخليج من تهديد إيران أو لتبليغ الملالي رسالة لا تحتمل تفسيرين بعزمه كرئيس القوى العظمى الوحيدة في العالم، على عدم السماح لهم بامتلاك سلاح الابتزاز النووي.

نهدي الملاحظات لمثقفي اليسار والليبراليين، وننصحهم بقراءة الصحف الأميركية المؤيدة تقليديا للديمقراطيين، كـ«واشنطن بوست» في انتقادها سياسة أوباما كأسوأ فشل دولي لأميركا في احتواء أزمة سوريا منذ مذابح رواندا قبل عقدين، مع تذكير المثقفين العرب بأنه منذ الحرب العالمية الثانية، لا يمكن انتصار المجتمع الدولي للخير على الشر بلا قيادة أميركية لاستراتيجية التدخل الدولي (أو على الأقل المشاركة الفعالية الأكبر لها)، وعليهم أن ينسوا إنقاذ السوريين أو حماية مسلمي بلدان الساحل أو تحقيق أحلام شهداء ثورات الربيع الضائع إذا استمر أوباما في تناسي دور أميركا التاريخي في حماية العالم.