أهل الكهف

TT

ربما يكون العنوان فيه شيء من الاستفزاز، فقد أردت أن ألفت النظر إلى أهمية الزمن وعلاقته بالتاريخ في الاقتراب من الأمور السياسية في ظل نتائج الواقع العربي حتى اليوم. وأعني بالعنوان ما ظهر حتى الآن من سياسات - خاصة في مصر - ومحصلتها تطبيق أفكار قديمة على واقع جديد ومختلف. لقد استمر استخدام الـ«سوفتوير» القديم في «هاردوير» جديد.

من المؤكد أن مصر تنتمي إلى هذه البلدان التي لا نظير لأهميتها الاستراتيجية، سوى جهل بعض حكامها بها، فما يحدث في مصر اليوم يمكن - إلى حد كبير - أن يحدث في الجوار غدا، وتجاهل تلك الحقيقة الاستراتيجية لا يؤدي إلى الإخلال بالداخل المصري وحده، ولكن أيضا بالجوار المحيط.

مشروع الإخوان المسلمين مشروع قديم أسس على خلفية سقوط الخلافة في إسطنبول قبل ثمانين عاما، وسارت مياه كثيرة في تطور هذه الحركة الشعبية التي امتدت من مصر إلى عدد من الدول العربية. ومع وصول منتسبيها إلى الحكم في مصر، كان لا بد أن تنتعش فروعها في أماكن أخرى من العالم العربي، سواء أكان هذا الانتعاش بفعل فاعل، أي بسبب التساند التنظيمي، أو بسبب التأثير المعنوي.

فروع في تونس والأردن والكويت وفلسطين - من بين الكثير من المراكز العربية الحضرية - التي وجدت هذه الحركة مواقع صالحة لبقائها. العداء السياسي لهذه الحركة الواسعة لا يمكن تجاهله، وهو عداء يكيل التهم ويتحين الفرص من أجل النيل من أدائها السياسي من أجل إرباكه، إلا أن المعضلة هي أن كثيرا من قادة هذه الحركة في بلدان عربية كثيرة، وخاصة في مصر القاعدة، لا يفرقون بين العداء السياسي الذي يتخذ موقفا رافضا من حيث المبدأ، وبين المحاكمة الفكرية والمناقشة العقلانية لبرنامج حكم وأداء سياسي على الأرض، فالأول مليء بالنكد والمقاومة، والثاني راغب في التطوير، ومن أكبر أخطاء الحركة أن تضع الاثنين في وعاء واحد.

هناك عدد من التحديات التي تواجه حركة الإخوان في حكم مصر، ولعلي أشير هنا إلى بعضها.

أولا: هناك واقع اجتماعي سياسي يسبق التفكير والتصور التقليدي للحركة، فقد أبقت الحركة على معظم مقولاتها القديمة في تصور المجتمع الذي تريد، كما جاء بها تقريبا المؤسسون، والمحاولات في السنوات الأخيرة لتطوير برنامجها السياسي لم يرق إلى ما هو مطلوب في القرن الواحد والعشرين.. الزمن يسبق التفكير. من هنا جاء هذا الارتباك في التشريع والقرار السياسي، الذي ظهر في وضع الدستور المصري الأخير، ووضع القوانين المكملة له. فيرى البعض أن التعثر ممكن بسبب واقع على الأرض يسبق التنظير لا بسبب مقاومة أو مؤامرة. هذا الفقر في الرؤية للمجتمع المراد يسبب الكثير من النقد، وهو نقد من يشوش الصورة بكثرته وكثافته، ويجعل من ردود الفعل عليه من أهل الجماعة عصبية متهمة الآخرين بشتى التهم، ناقلة نقدهم من طلب الإصلاح إلى تأكيد نياتهم في التخريب. هذا المسار سوف يؤدي في النهاية إلى عزل جماعات مهمة في المجتمع في التجربتين، المصرية والتونسية، كما تم عزل الكثير من القوى في السودان، وهذا العزل هو أول سلم الوهن.

ثانيا: هناك تجربتان للحكم السياسي على قاعدة دينية، وهما بشكل فضفاض إيران وتركيا، (إذا استثنينا السودان لاختلاط العسكر بالشعار الديني). الاختلاف بين إيران وتركيا، هو أن لإيران مؤسساتها الدينية السياسية القديمة، فتشابك وتداخل أهل الدين وأهل السياسية في التاريخ الإيراني قديم قدم قيام الدولة الحديثة التي قامت على قاعدة مذهبية. في القرن التاسع عشر ومعظم القرن العشرين، ومنذ ثورة المشروطية في عام 1906 كان هذا الاشتباك بين أهل الدين وأهل السياسة في إيران له مفاعيله على الأرض، وإن تغيرت المواقع والمواقف السياسية، إلا أنه اشتباك دائم. والحديث في المشرق العربي المتواري أو الظاهر في جعل التجربة الإيرانية على أجندة الحكم العربي الجديد، هو حديث أو توجه فيه مراهنة في الغالب خاسرة. فالتجربة الإيرانية لم تقدم حتى الآن نموذجا يساير العالم الحديث، عدا أن موقفها من هذا العالم معادٍ، يدفع ثمنه الباهظ قطاعات واسعة من الشعب الإيراني وتعزل منذ فترة إلا من بضعة أصدقاء.

التجربة التركية اختلفت لعدد من الأسباب، لعل أبرزها هو حداثتها، فبعد انقطاع قسري فرضته القومية التركية الأتاتوركية، جاء الحكم الجديد متوافقا مع الواقع الاجتماعي السياسي التركي الذي يحمل بذور الحداثة.

أمامنا في هذين النموذجين معادلة يمكن وضعها على الوجه التالي: «تدين الدولة ومدنية المجتمع، والحالة الإيرانية، ومدنية الدولة وتدين المجتمع، والحالة التركية». وتفاصيل هذين النموذجين على أرض الواقع مختلفة كل الاختلاف في عدد من الأمور الأساسية.

هناك استحسان ملموس عربيا يتوجه بشكل ما إلى النموذج الإيراني في كثير من خياراته والتشكيك في النموذج التركي. لعل أساس هذا التوجه هو الشغف في التمكن من أدوات الدولة دون استعداد - ولو نظريا - للتخلي عنها، وهو توجه يوحي بأن المهمة المناطة بهذه الجماعة هي مهمة ربانية أكثر منها مدنية. هناك تكمن معضلة التيارات السياسية الدينية العربية، من وصل منهم إلى الحكم ومن يسعى إليه.

ثالثا: قد يقود هذا التوجه (استحسان النموذج الإيراني) إلى مواجهة مع الآخرين، الشركاء في الوطن أولا، وقد يقود أيضا إلى صراع إقليمي - خاصة مع إسرائيل - لا قبل له به، كما يثير شكوك الأشقاء، ولعلنا نلحظ في بعض الأوساط إعادة اكتشاف لبعض التصريحات من أهل الحكم الحالي في مصر، معادية - ربما بشكل ساذج - لإسرائيل، ومستحسنة بشكل ما للنموذج الإيراني، وهي محاولة في شقيها، لاستعجال المواجهة.

تاريخ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والأول من القرن العشرين يقول لنا بما لا يدع ذرة من الشك، إن القوى الغربية تدخلت في بلدان مثل تركيا (الدولة العثمانية) وإيران ومصر، بسبب القوانين التي كانت - في نظر تلك الدول - غير مناسبة للتطبيق على مواطنيها، قاد ذلك إلى ما عرف بالاستعمار الغربي. يكرر التاريخ نفسه اليوم لتتدخل القوى الكبرى بسبب التعامل مع المواطنين أو الأقليات من قبل الحكومات، الذي يعتبره الغرب غير متوافق مع القوانين الدولية وحقوق الإنسان في المسيرة الحضارية الإنسانية. الاحتجاج يأتي سواء من خلال مؤسسات دولية أو جماعات أهلية. هذا التدخل المعنوي اليوم يحث على أن تقوم الحكومات بالتوافق مع التيار الحضاري العالمي في القوانين والممارسات، فلم تعد الديمقراطية الرمادية مقنعة، سواء للمواطن في الداخل أو المؤسسات الدولية في الخارج.

لعل كل هذه الأسباب مجتمعة تنتهي بالقول إن تفكير أهل الكهف غير مناسب للألفية الثالثة، وواجبة التغيير، لأن الزمان غير الزمان وحاجات وطموحات الناس غيرها لدى أناس الأمس.

آخر الكلام:

المجتمع الذي تختزله التقارير الحزبية والأمنية التي تكتب ضد مخالفين في الرأي، لا تتوفر له نهضة، فقط أضابير جديدة في الأرشيف الأمني!