العراق مقسم على ثلاثة وإن لم يعلن

TT

«وقلبي ملآن أسى، إنه في اعتقادي لا يوجد في العراق (شعب عراقي) بعد».. هذا ما قاله الملك فيصل الأول بحق العراقيين في مذكرة رفعها إلى لجنة التحقيق الدولية حول مشكلة الموصل عام 1925.

وأضاف: «بل توجد كتلات بشرية خالية من أي فكرة وطنية.. لا تجمع بينها جامعة. إن البلاد العراقية هي من جملة البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية، ذلك هو الوحدة الفكرية والملية والدينية، فهي والحالة هذه مبعثرة القوى مقسمة على بعضها.. ».

صدق الملك فيصل الأول، فالدولة العراقية منذ تأسيسها عام 1921 لم تقم في الصدور، فقد قاومها الكرد في ثورات وانتفاضات عدة، وحذا الشيعة حذوهم، إذ تعرضت انتفاضة لعشائرهم في الفرات الأوسط إلى القمع عام 1935، وفي العهد البعثي الثاني دخلوا في مواجهات دموية مع البعث، ولم تقتصر مناهضة الدولة الفتية على الكرد والشيعة فقط.. بل طالت حتى المكونات الاجتماعية الصغيرة، ففي عام 1933 تم قمع ثورة الآشوريين بمحافظة دهوك بقسوة، وفي عام 1936 جرى سحق ثورة للأيزيديين بقيادة داود الداود في سنجار.

وبهذا ظلت الدولة العراقية متزعزعة الأركان، مبعثرة القوى، مقسمة على بعضها، ومهددة على الأرض، ومع ذلك لم ترتفع الأصوات بتفكيكها. لكن تواصل الاضطهادات ضد مكوناتها المقهورة، ولا سيما الكرد، جعل تقسيم العراق على اثنين (كردي وعربي) ممكنا نتيجة المذابح الجماعية التي سلطت على الكرد وبالأخص في الخمس الأخير من القرن الماضي، وتحت ضغط من المسيرة المليونية الكردية الشهيرة التي هزت العالم عام 1991 أقيمت منطقة الحظر الجوي في خط العرض الـ36 على يد التحالف الدولي، والذي أسفر عن قيام كيان كردي ديمقراطي شبه مستقل. وبفضله تقدمت كردستان من النواحي كافة، وبمرور الأيام لم يعد مقنعا ولا ممكنا بقاء الكرد ضمن نفوذ الحكومة المركزية، وبذلك تحقق أول تقسيم للعراق على اثنين. أما الخطوة التالية باتجاه تحقيق تقسيم للعراق على ثلاثة فجاءت عام 2003 بعد إسقاط النظام البعثي (الذي كان ينظر إليه على أنه سني المذهب) وحلول نظام شيعي محله وظهور مصطلح المثلث السني الذي شهد ويشهد منذ ذلك العام تطهيرا عرقيا ودينيا ومذهبيا للكرد والمسيحيين والشيعة والأيزيديين، مارسته قوى الإرهاب وفئات دينية سنية وقومية متشددة.

بالمقابل مارس بعض الميليشيات الشيعية بدورها التطهير بحق السنة في بغداد والمحافظات الجنوبية ومن جرائه هجرت الألوف من السنة إلى سوريا والأردن ومصر وكردستان وبلدان أخرى، وأدى التطهير المتبادل بين الطرفين الشيعي والسني إلى بروز منطقة سنية شبه خالية من الأعراق والمذاهب غير السنية، دع جانبا رفع علم النظام البعثي السابق وصور صدام حسين وعلى وجه الخصوص في بعض المناسبات السياسية فيها.

وخلال السنوات الـ10 الماضية، راحت فكرة التقسيم في العراق تنتشر وتتداول بشكل صارخ وبلغت ذروتها عام 2007 في مشروع جو بايدن الذي نص على تقسيم العراق إلى ثلاثة أجزاء شيعي وكردي وسني، وعادت الفكرة لتشق طريقها بقوة في مظاهرات واعتصامات السنة في المثلث السني حصرا من دون سائر العراق، والتي طغت عليها مطالب سياسية تنتصر لحزب البعث الذي ما زال بمثابة طليعة قومية للسنة العرب العراقيين وممثلا أكبر لهم من دون منازع، المطالب مثل: إلغاء اجتثاث البعث والمادة «4 إرهاب»، وإصدار قانون العفو العام.. إلخ.

وكما تتراجع المطالب الخدمية في الثورات التحررية الاستقلالية، فإنها (المطالب الخدمية) كادت أن تختفي من شعارات المتظاهرين والمعتصمين السنة. ومثلما كانت الحكومات العراقية السابقة والحالية تتعامل مع المنطقة الكردية، تعاملها مع الأجنبي وتحاربهم اقتصاديا، فإن أبرز خطوة أقدمت عليها حكومة المالكي لمجابهة اعتصامات محافظة الأنبار هي غلقها لمعبر طريبيل الحدودي مع الأردن، الذي يترتب عليه تضييق الخناق اقتصاديا على تلك المحافظة المعقل الرئيسي للاعتصامات السنية، وإرغامها على الركوع، وبتركيعها ستنهار الاعتصامات في بقية المحافظات السنية تلقائيا، لأسباب منها ضعف وضيق الاعتصامات فيها مقارنة بالأنبار، إضافة إلى وجود مكونات اجتماعية غير سنية في تلك المحافظات لا تشاطر السنة الرأي.

ويعمق من فكرة التقسيم أكثر، اندلاع مظاهرات شيعية في المحافظات الشيعية تأييدا للحكومة الشيعية بوجه الحراك السني، مما يعني نزولا للخلافات الطائفية إلى الشارع وما ينجم عنه من تباعد أوسع بين الشيعة والسنة وقيام جدار سميك وعال بين الجنوب الشيعي والمثلث السني بشكل أقوى من ذي قبل. كما تعمقها أكثر تحركات أخرى تقوي من الفصل المذهبي، مخيبة لآمال أنصار الوحدة العراقية من الجانبين، مثل انسحاب وزراء العراقية والتحالف الكردستاني من اجتماع لمجلس الوزراء العراقي عقد يوم 8/1/2013 تضامنا مع اعتصامات السنة من دون انسحاب وزراء أي فصيل شيعي بما فيهم التيار الصدري الذي اعتقد فيه مناصرا لاعتصامات السنة، تلاه اتفاق مكونات التحالف الوطني الشيعي يوم 9/1/2013 لرد المطالب السياسية السنية كافة والتي تتناقض مع الدستور العراقي.

وإذا كانت كردستان العراق شبه مستقلة وصار المثلث السني مقفلا للسنة يوحد بين حكوماته المحلية والجماهير السنية، فإن التقسيم في الصدور انتقل إلى الأرض أيضا، ولم يبق إلا الإقرار رسميا بهذا التطور الذي أصبح في حكم الأمر الواقع، ويبقى العراق بانتظار، إما غورباتشوف العراقي لينفذ التقسيم بالتي هي أحسن، وإما الدخول في الفوضى الخلاقة لتقول قولها الفصل، الأمر الذي لا يسر أحدا، لما تتضمنه، الفوضى الخلاقة، من نكبات وقتل وإراقة للدماء.

لقد أخفق فيصل الأول في أن يشكل من تلك الكتل شعبا «مهذبا مدربا متعلما» كما ورد في مذكراته، في وقت كانت التناقضات بين المجتمعات العراقية ضيقة بسيطة للغاية في زمانه مقارنة بالتناقضات الحادة بينها حاليا. وعليه، فإن الإبقاء على الوحدة العراقية الهشة أبدا، والتي يؤكد عليها القادة السنة والشيعة في أقوالهم ويعملون على تفتيتها بممارساتهم العرقية، صار ضربا من المستحيل. وهيهات أن يحقق القادة العراقيون الحاليون ما عجز عنه الملك فيصل الأول.

* كاتب سياسي _ العراق