25 يناير: شعرة الجنون وشعرة العقل

TT

قبل عامين، عامين فقط كان يوم 25 يناير يوما مشهودا في مصر، كان حجرا ضخما ألقي في بركة التاريخ والسياسة والمجتمع في العالم العربي، احتشد له الشباب الثائر وقدّموا له أرواحهم وخيالاتهم الحالمة وكانوا عميقي اليقين بأنّهم - كما يرى هوفر - هم الحالمون الذين يخلقون الثورات ويصنعون الفارق، وأن أحدا غيرهم ليس له فضل ولا مزية أن ينافسهم جهدهم أو ينفس عليهم عملهم فضلا عن أن يحتكره دونهم.

كان الصراع يتمّ على كل المستويات السياسية والثقافية والإعلامية والمجتمعية بين شعرتين، «شعرة الجنون والعبقرية» وهي شعرة حالمة طامحة تفتش عن الحدّ الفاصل بين عنصريها ولكنّها تتيه في الأول وتبتعد عن الثاني، وشعرة أخرى أبلغ تأثيرا وأبعد أثرا هي «شعرة معاوية» حيث موازين العقل وحسابات المصالح ومقاييس التوازنات. كان في الشعرة الأولى الشباب الثائر الحالم والمنخرطون معه من أدباء ومثقفين ومعارضين سياسيين وإعلاميين ونحوهم، وكان في الشعرة الثانية القوى الدولية والإقليمية والجيش وجماعة الإخوان المسلمين حيث لم تكن القوى الأصولية الأخرى تعي حينذاك كيف تتعامل مع المشهد الجديد.

كانت الشعرة الأولى تتكئ على مفاهيم كبرى تحسبها مفاهيم راسخة ومطلقة وتحسبها ملكا حصريا لها كالحرية والعدالة والديمقراطية والحقوق والثورة باعتبارها مفاهيم موحدة المعنى مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة ومهما تناقضت السياقات الحضارية، فهي بالتالي مفاهيم غير قابلة للتحوير والتدوير فضلا عن الاختطاف، وكان القائد الأكبر لديها هو التكتيك القصير النظر والأمد، بينما كانت الشعرة الثانية بشتى تناقضاتها تعمل بجد ودأب على مفاهيم مختلفة تماما كالسلطة والنفوذ والاقتصاد والوعي بكل ما تعنيه من استراتيجية متكاملة يجب أن تبنى لمواجهة أوضاع جديدة تتخلق.

لم يمض عامان فقط حتى بدأت الخيبات ترتمي في أحضان أتباع الشعرة الأولى والثمار تتساقط في سلاسل أتباع الشعرة الثانية وبدأ الفرز الحقيقي وإعادة القراءة وإعادة التموضع تطرأ على المشهد برمّته بعدما بدأ بالكشف عن نفسه أكثر فأكثر، فانحاز تدريجيا كل ذي عقل لعقله الذي فقده أثناء الصخب وثاب كل راشد لرشده بعد مغامرة فاشلة لم تدر في خلده أبعادها ولا تأثيراتها، والتهمت غياهب الغي من اختارها.

اتخذت القوى الدولية والغربية منها تحديدا قرارها بتجريب أنظمة أصولية جديدة بديلا عن دول العسكر القديمة، خاصة أن تلك القوى الأصولية وعلى رأسها الإخوان المسلمون لم تنِ من قبل ومن بعد في التواصل مع الدول الغربية وإرسال كل رسائل التطمين لها لتحظى بفرصة الوصول إلى السلطة التي لطالما حلمت بها، ولئن لم تصنع تلك الدول الغربية التجربة على عينها فإنها قد اتجهت لرعايتها ثم لم تلبث أن أعلنت عن خيبات متكررة بصعود القوى الأصولية العنفية إلى السطح وتجرعها لسموم خيارها.

كان الجيش في مصر وقبلها في تونس هو العامل الحاسم فيما جرى قبل عامين؛ فإصراره على الحياد بين النظام والشباب الثائر كان هو القشة التي قصمت ظهر الأنظمة السابقة، وهو ما صدّقته الشعرة الأولى وهتفت له «الجيش والشعب يد واحدة» ثم لم تلبث أن هتفت ضده بعدما انحاز بطبيعته للشعرة الثانية، ثم رضي لاحقا من الغنيمة بالإياب.

أما القوى الإقليمية فقد وقفت مواقف مختلفة تجاه ما كان يجري؛ فمنها من بقي على الحياد مصرا بأن مصر للمصريين وأنه لا يتعامل إلا مع سلطة شرعية تمثل الدولة المصرية بعيدا عن أي حسابات أخرى كما صنعت السعودية وأغلب دول الخليج، ومنها من رحبت بملء شدقيها كإيران بالتغير الدراماتيكي في دولة كانت أحد أعمدة محور الاعتدال العربي المواجه لها ولطموحاتها وأطماعها في المنطقة ولكنّها لم تلبث أن أعادت تموضعها حين وصلت الأحداث لسوريا حليفتها وعمودها الفقري في العالم العربي فصارت تنكّل بالشعب السوري أيما نكال، وبقيت تركيا تقارب المشهد برمّته وتقدّم رجلا وتؤخر أخرى، يغريها حلم الانخراط في العالم الأوروبي الحديث وبسط نفوذها في منطقة تخيفها أدواؤها المزمنة التي تطالها كالعرقية الكردية أو الطائفية العلوية أو الإسلام السياسي الأصولي التي كانت تريد أن تكون نموذجه الأعلى فصار يناقضها على الأقل علنا.

وظهر الإخوان المسلمون من تحت الرماد، وبعد انكفاء مدروس - في البدايات - واتقاء بالشباب الثائر ومفاوضات سلسلة مع النظام السابق تقدّموا بعد الوثوق بنجاح الانتفاضة ليدخلوا بقوة على مشهد الشباب الثائر ويأخذوا منهم منصتهم في ميدان التحرير ثم استولوا على الميدان برمته لاحقا وفي لحظات حرجة متعددة، وحين التجأ الشباب لمفاهيمهم التي كانوا يحسبونها حصرية لهم كما تقدّم نازعوهم عليها وانتزعوها منهم اسما ورسما بطرق يطول تفسيرها وشرحها ولكنها أدت لنتائج قاطعة على مستوى المعنى كما على مستوى الواقع، وصاروا هم وحدهم لا يشاركهم إلا أتباعهم من الأصوليين القليلي الخبرة البالغي التأثير من السلفيين وأشباههم هم من يملك تلك المفاهيم غير منازعين فيها، وخرج الشباب الثائر صفر اليدين يجر أذيال الخيبة، لا في البرلمان ولا في الشورى ولفظته الصناديق التي كان يهتف باسمها.

ذهبت تلك المفاهيم أيدي سبأ، فأصبح «الحرية والعدالة» اسما لحزب الإخوان المسلمين، و«الديمقراطية» مجرد آلية يستخدمونها لمزيد سيطرة وسلطة ونفوذ، و«الحقوق» هي التي يحددونها بعد الاستيلاء على الدستور، و«الثورة» هي بالأساس ثورتهم وحدهم، و25 يناير صارت فضائية تلفزيونية تتحدث باسمهم.

ظلّ الإخوان المسلمون ثمانين عاما يجوسون خلال الديار، يخططون لصنع ثورات وتنظيم انقلابات، ويصنعون لذلك التنظيمات المعلنة والسرية، والحركات المسالمة والعنفية، لا يتحالفون مع دولة إلا انقلبوا عليها، ولا يثق بهم نظام إلا استغلوه، وبعد 25 يناير 2011 ركبوا الصعب والذلول للوصول للسلطة وحين وصلوها دخلوا في شغف الاستحواذ عليها في كل مجال وبكل سبيل، ونسوا البلاد والعباد والفقر والبطالة، والحاجة والفاقة، وخانتهم الخبرة الطويلة من العمل في الظلام وتحت الأرض عن قيادة الدولة فوق الأرض وتحت الشمس.

من يحسن الإنصات للأصوات المقبلة من تلك الديار مصر وتونس تحديدا سيستمع إلى أنين الألم وفجيعة الخديعة والتقلب بين الضيم والسخط الذي تعبر عنه أصوات عاقلة بدأت في التكاثر والازدياد وشرائح شعبية آخذة في التململ والشكوى من ليل يحسبونه قصيرا وأحسبه طويلا.

ومن يحسن قراءة الأوضاع في بلدان الانتفاضات والاحتجاجات يتضح له بجلاء أن شحم «الربيع العربي» كان ورما، وإن كان في المشهد ما يحمل شيئا من بشرى فهو أن كثيرا ممن خدعهم ذلك الورم قد تابوا من «شعرة الجنون» وثابوا إلى «شعرة العقل» وعليهم أن يبدأوا مشوار الألف ميل.