اليازجي الظريف المنسي

TT

من أول رواد النهضة الفكرية العربية المعاصرة الشيخ ناصيف اليازجي الذي عاش في القرن التاسع عشر وقضى جل حياته في لبنان، وإن كانت أسرته قد انحدرت من حمص في سوريا. كان شخصا متنوع الاهتمامات والمواهب التي امتدت من الشعر والأدب والتاريخ إلى فن الخط الذي أجاده وترك نماذج جيدة منه. انصب اهتمامه الأساسي على بعث اللغة العربية ونشرها فترك لنا عدة كتب في الموضوع. وساهم أيضا في ترجمة الإنجيل والعهد القديم إلى اللغة العربية. ولكن كان له أيضا جانبه كأديب ظريف قلما يفطن إليه أحد.

تجلى ظرفه وفكاهاته وسخريته في «مجمع البحرين» الذي كتبه بأسلوب الحريري وبديع الزمان الهمذاني. فجاء عمله هذا على غرار مقاماتهما في السجع والشعر. ترك من ذلك ستين مقامة. ما يلفت نظري منها المقامة الستينية، وهي المقامة الأخيرة. فهي تعالج هذه المعضلة الأبدية التي عانيت منها مثلما عانى منها معظم الزملاء في دنيا الأدب والفكر، وأقصد بها انتحال أعمال الآخرين الأدبية والفنية وسرقتها وتشويهها وتجاهل حقوق أصحابها.

ميمون الخزامي هو بطل مقامات اليازجي. يكسب عيشه من الاحتيالات الأدبية واللغوية الظريفة بالتعاون مع ابنته ليلى. يطوف شتى أرجاء العالم العربي يسوّق بضاعته. ولا شك أن الشيخ اليازجي كان صريحا وصادقا في ذلك من حيث ما قام به من الانتحالات الأدبية من أصحاب المقامات العربية. بيد أنه في المقامة الستين يتوب إلى ربه نادما عما فعل:

«وبعد، فإنني قد قمت فيكم مقام الفقيه الخاطب، وهي صفقة لم يشهدها حاطب، فإني طالما ارتكبت الأوزار، وتبطنت الأقذار، واجترحت المغارم، واستبحت المحارم، وانتهكت الأعراض، فسودت منها كل بياض. وما زال ذلك دأبي مذ شببت، إلى أن دببت، فليس لي أن أعظ أحدا ولا أفوه بخطبة أبدا. وعليّ أن أقصر درسي على وعظ نفسي. وها أنا قد اعتمدت الأوبة واعتصمت بالتوبة، فأدعو الله أن يأخذني بحلمه لا بحكمه، ويعاملني بفضله لا بعدله».

ثم يأخذ الشيخ في الأجيج والضجيج ويراوح بين النحيب والنشيج، حتى يبكي من حضر من البدو والحضر. فيأخذ القوم في تسكين ارتعاشه وتمكين انتعاشه حتى تخمد لوعته وتهمد روعته. فما كان من الحضور غير أن يتبرعوا له، كل واحد بدينار واحد.

وبعد أن يقبض منهم ما يجمعه ينصرف لقضاء الليل. فبات بليل انقد، يساهد الفرقد، وهو لا يفتر من ذكر الله ولا يمل من الصلاة، حتى إذا أخذت الدراري في الأفول قام وأنشأ يقول:

قم في الدجى يا أيها المتعبد

حتى متى فوق الأسرة ترقد

واضرع وقل يا رب عفوك إنني

من دون عفوك ليس لي ما يعضد

أسفا على عمري الذي ضيعته

تحت الذنوب وأنت فوقي ترصد