هل أنا رجعي؟

TT

بصراحة كنت أعتقد أني تقدمي، بل وتقدمي أكثر من اللزوم. كنت أعتقد أني من جماعة الحداثة، بل وما بعد الحداثة. فإذا بي أكتشف فجأة أني رجعي! لكم أن تتخيلوا حجم الهلع الذي أصابني والغم الذي دمرني. إليكم القصة بحذافيرها.

منذ أسابيع عدة وفرنسا مشغولة بمناقشة صاخبة، مناقشة هائجة، حول موضوع لا يكاد يخطر لكم على البال أنتم يا سكان الجنوب «المتخلفين الأصوليين الرجعيين»! أعرف أنكم مهددون بالمجاعات والحروب الأهلية والمجازر وليس عندكم لحظة واحدة للتفكير في آخر ما توصلت إليه الحضارة من ترف ما بعده ترف. إنكم مشغولون بتدبير لقمة العيش لكم ولأطفالكم. وهذا شرف لكم. أنتم الشرفاء الوحيدون في هذا العالم. ولكن اعلموا أن كل مشكلات العالم انتهت بالنسبة للعالم المتحضر ولم تعد هناك في فرنسا إلا مشكلة واحدة: الزواج للجميع! أي زواج الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة، وربما القط بالقط والقطة بالقطة. انتبهوا لكل حرف أقوله هنا. إنه مقصود لذاته وبذاته. إنني مسؤول عنه أمام محكمة الجنايات الدولية. إذا استمرت الأمور على هذا النحو فأخشى ما أخشاه أن يجيء يوم يمنع فيه الزواج «الرجعي القديم» منعا باتا: أي زواج الرجل بالمرأة. إنه الزواج الوحيد الذي قد يثير الاشمئزاز والاستغراب في بلدان الحضارات الراقية أكثر من اللزوم. يا له من عار! لا تضحكوا ولا تستهزئوا ولا تقهقهوا. أرجوكم احترموا أنفسكم والزموا حدكم! الزواج الرجعي أصبح في ذمة التاريخ أو يوشك أن يكون..

للحقيقة والتاريخ ينبغي الاعتراف بأن الشرفاء في فرنسا موجودون أيضا، بل وبكثرة لحسن الحظ. وهم في هذه اللحظة بالذات يقاومون هذا الانحراف الغبي إن لم أقل الجنوني بكل قوة. وقد نزلوا إلى الشارع بمئات الألوف دفاعا عن العائلة والمجتمع والحضارة بكل بساطة. قصدت الحضارة الحقيقية، الصحية، لا الحضارة الانحرافية، المرضية.

فرنسا إذن لم تستسلم لأكبر وباء يهدد النوع البشري. ولم يكونوا كلهم من اليمين ولا رجال الدين. هل ليونيل جوسبان يميني؟ إنه من أفضل ما أنجبته الطبقة السياسية الفرنسية. إنه نتاج مباشر لعصر التنوير والثورة الفرنسية. ومع ذلك فقد أدان هذا التوجه قائلا: البشرية كلها مؤسسة على هيئة رجل وامرأة وليس على هيئة رجل ورجل أو امرأة وامرأة. هذا هو المبدأ الأساسي الذي ينظم حياة البشرية عبر القرون والذي ينبغي احترامه لا انتهاكه. قد تقولون: أين هو الاكتشاف الجديد في هذا الكلام؟ أين هي العبقرية؟ إنه تحصيل حاصل. ومعكم الحق. ولكن البدهيات أصبحت إشكاليات في بلاد ديدرو وفيكتور هيغو وفولتير. لقد انقلب التنوير على نفسه يا سادة وتحول إلى عكسه. لو سمعوا بذلك لتحركوا في قبورهم. أمن أجل هذا ناضلوا؟

الآن في فرنسا ستكون بطلا إذا ما تجرأت وقلت بأن زواج الرجل بالمرأة أفضل من زواج الرجل بالرجل! سوف يعتبرونك متخلفا أو مجرما عنصريا ضد «إخواننا» المثليين! بالمناسبة ما عدنا قادرين على استخدام مصطلح الشواذ أو الشذوذ الجنسي. لم يعد يوجد شيء اسمه شذوذ في بلاد الحضارات. أكاد أقول إن الشذوذ هو أن يتزوج الرجل بالمرأة وليس العكس! أبالغ قليلا تحت تأثير الغضب والانفعال.. ذلك أن الخطر الحقيقي الذي يهدد الحضارة الغربية هو: العدمية النسبوية، أو النسبوية العدمية. ماذا يعني ذلك فلسفيا؟ إنه يعني ما يلي: كل شيء يتساوى مع كل شيء ولا شيء أفضل من شيء.

لا توجد قيم واحدة كونية تنطبق على الجميع وإنما كل شخص يشكل قيمه طبقا لرغباته ونزواته الشخصية. المهم متعتي ومصلحتي الشخصية وطز بمصلحة المجتمع كله. بعدي الطوفان! المهم أن أستمتع بالحياة إلى أقصى حد ممكن قبل أن ألوي عنقي وأموت. الشذوذ الجنسي والجنس الطبيعي سيان. ما حدا أحسن من حدا. ينبغي أن أجرب كل أنواع الجنس والشذوذ والمخدرات لكي أستمتع بالحياة والملذات إلى أقصى حد ممكن قبل فوات الأوان.

هذا هو القانون الأعظم الذي يتحكم ببلاد الحضارات. إنها «ديكتاتورية الشهوات الطغيانية» التي تحدث عنها المفكر المحترم جان كلود غيبو. هل من أجل ذلك ناضل إيمانويل كانط مفكر التنوير الأكبر في الغرب؟ أبدا لا. كان أخلاقيا من الطراز الأول وحريصا على مصلحة المجتمع والجنس البشري ككل. وقد بلور الأخلاق الكونية العلمانية لا الشذوذية. وهنا أجد نفسي مضطرا للتفريق بين التنوير الصحيح/ والتنوير الخاطئ، بين التنوير المستقيم/ والتنوير المنحرف. عندما ابتدأت بالترويج لفكر التنوير الأوروبي لم يكن يخطر على بالي إطلاقا الدفاع عن كل توافه الحضارة الغربية وكل «صرعاتها» أو شططها وانحرافاتها. لم أكن أوقع صكا على بياض. كنت أهدف فقط إلى محاربة التعصب الديني الذي يهدد مجتمعاتنا بالحروب الأهلية والمجازر الطائفية وربما التقسيم. ولكن بحياتي كلها لم يكن هدفي الدفاع عن الانحلال الأخلاقي والعدمية النسبوية.

إني أعتبر العلاقة بين الرجل والمرأة أجمل علاقة على وجه الأرض. هذا لا يعني إدانة المثليين على الإطلاق. ولكن لا ينبغي أن يفرضوا قانونهم على المجتمع ككل. كلمة الزواج مقدسة ولا تنطبق إلا على علاقة الرجل بالمرأة. ليبحثوا عن كلمة أخرى. الخيارات كثيرة. ليونيل جوسبان على حق. هذا هو قانون الطبيعة البشرية والفطرة الإنسانية. ولم يكن هدفي إطلاقا الدعوة إلى الإلحاد المادي وإنما إلى الإيمان المستنير. وهو إيمان موجود في صلب تراثنا العربي الإسلامي العظيم وإن تكن قد غطت عليه الصفحة الأصولية الظلامية وطمسته بعد تكفير الفلسفة، فموتها. ولكن هذا الإيمان المستنير موجود أيضا لدى كانط وهيغل وروسو وكبار التنويريين الأوروبيين.

وبالتالي فلنحاول الدفاع عن الحضارة الإنسانية المهددة حاليا عندنا وعندهم. صحيح أن المرض الذي أصابهم معاكس تماما للمرض الذي أصابنا. عندهم التسيب الإباحي الزائد عن الحد، وعندنا التزمت الانغلاقي الزائد عن الحد. تعددت الأسباب والموت واحد!