مطلوب اقتصاديون جدد!

TT

يترقب العرب الحراك الاقتصادي الإيجابي المتوقع بعد القمة العربية الاقتصادية المهمة جدا التي اختتمت أعمالها مؤخرا في العاصمة السعودية الرياض، وهي قمة كانت موجهة ومحددة للتعامل مع التحديات الاقتصادية والظروف الاستثنائية التي تمر بها معظم الدول العربية وأدت إلى نسب هائلة من بطالة مرتفعة وتضخم عال.

ولكي يكتب للمبادرات المهمة التي انطلقت من هذه القمة النجاح والاستمرارية لا بد أن يكون الأمر مقرونا بتنفيذيين اقتصاديين قادرين على تحقيق هذه الرؤية وهذه المبادرة بشكل دقيق، وأن يدعموا ذلك ببيانات ومعلومات وبحقائق لا بتصاريح واهية لا غاية من ورائها إلا «تحسين» الوضع والشكل العام وإبراز الذات في آن واحد، وهو الحال الذي تبدو عليه معظم الجهات القائمة على الحال الاقتصادي في معظم الدول العربية مع شديد الأسف، وهي المسألة التي ولدت حالة من التشكيك في أحسن الأحوال وانعدام الثقة في أسوئها بين الجهات والأسواق الدولية وبين الاقتصاديات العربية من جهة أخرى.

كنت ذات يوم في أحد المؤتمرات الاقتصادية المتخصصة وكان يتحدث فيها أحد المسؤولين الاقتصاديين العرب المعروف «بغرامه وعشقه لنفسه ونرجسيته وحبه للمؤتمرات والتصريحات»، وأنهى ندوته التي احتار فيها أكثر من متخصص واعترض الكثيرون على ما جاء فيها من «إحصائيات» و«بيانات». وخلال الاستراحة التي تلت محاضرة هذا المسؤول لم يكن غريبا الاستماع إليه وهو يبرر ما قال وذلك بتعليقه «أنا معجب بأسلوب رئيس البنك الفيدرالي الأميركي آلان غرينسبان فهو كان يقول كلمات كبيرة وضخمة تحتاج إلى قواميس لفهم محتواها. وبالتالي يركز الناس على محاولة فهم الكلمات دون التدقيق ما إذا كانت هذه الكلمات والبيانات حقيقية أم لا»، وطبعا وضح هذا التعليق ما يدور في رأس الرجل وأسلوبه في التعاطي مع الأمور المالية والاقتصادية ولكنه أيضا أكد سلامة الشك والقلق المنبعث من الدوائر الاقتصادية «المحترمة» حول العالم التي تضطر لأن تتعامل مع هذا الهراء والعبث.

اختيار الشخصيات المتزنة والسوية والمهنية والمحترفة التي لا تبالغ ولا تجمل ولا تنمق الكلمات والتي تطبق على نفسها أولا قواعد الحوكمة والشفافية وتبتعد عن تضارب المصالح والتناقض في المواقف، من شأنه أن يكون مدعاة للثقة والطمأنينة، وأن يمنح كافة المتعاملين مع الاقتصاديات العربية شعورا مهما بالجدية والاحترام والأمان.

التعامل مع «الاقتصاد» كعنصر مهم وهدف سياسي استراتيجي واعتبار اضطرابه وتدهوره خطرا على الأمن الوطني للمنطقة، خطوة جيدة وتدل على أن الرؤية تغيرت للاقتصاد عموما ولكنها حتما تتطلب اختيار رجال من عينة أخرى ومن نوعية مختلفة قادرين على أن يهتموا بالصورة الكبيرة للاقتصاد الكلي وأيضا بالاقتصاد الجزئي، وأن يتعاونوا مع القطاعات الحكومية الأخرى وكذلك الانفتاح الحميد على القطاع الخاص والتفاهم على ذلك معه دون أن يكون الهم والهاجس الوحيد هو المجد الشخصي المنشود ولا الإرث الشخصي المأمول.

تظل الخطط والدراسات والبيانات والإحصائيات أسيرة الأدراج والشكوك إذا لم تصاحب بالمصداقية والجدارة التي لن تتأتى إلا من خلال التواصل مع الجميع بحسب المواقع وبحسب المناصب، وهي المسألة التي لم تحسم بالقدر الكافي المطلوب للآن. وهذا مع شديد الأسف يفسر وجود فجوات في قدرات الكفاءات البشرية الموكول إليها المسؤولية الاقتصادية في العالم العربي وعدم وجود تناغم وثبات في المعايير والمقاييس التي يتم بناء عليها اختيار الرجال لتلك المناصب ولتلك المهام.

لم يعد من الممكن قبول من كانوا سببا في الهوة الهائلة بين الحكومات وشعوبها وبين القطاعات وأجهزة الحكومات أن يستمروا على رأس قيادات اقتصادية حيوية في زمن حساس ودقيق ومهم جدا. نوعية الكفاءات المطلوبة تغيرت ومعايير الاختيار تبدلت وبات المطلوب أن يكون المختار لذلك من أهل الكفاءة والجدارة مسألة غير قابلة للنقاش.

وكل الأمل ألا يطول الانتظار حتى يتحقق ذلك؛ فالاقتصاد لا يصلح إلا بالمبادرة مع الكفاءات البشرية المميزة.. وهذا غائب للآن.

[email protected]