«دوامة» القصاص في مصر

TT

لكل جيل وعصر مفرداته ومصطلحاته التي يستخدمها في الأحداث الاجتماعية والسياسية الكبرى. وفي مصر انتشر شعار القصاص الذي رفع من قبل الكثير من القوى السياسية أو غير السياسية بعد 25 يناير 2011 كتعبير عن المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن العنف وقتل المتظاهرين، ومحاسبة مسؤولين سابقين أو حاليين أو المسؤولين عن مواجهات دموية حدثت في خضم الاضطرابات التي شدتها المرحلة الانتقالية.

وبدا هذا التعبير أو المصطلح جديدا على الساحة السياسية المصرية بما يحمله في مدلولاته من الدعوة إلى عقاب بمثل ما اقترفه الجاني تماما، وهو أصلا قد يجوز في جرائم فردية، ولكن في أحداث سياسية كبرى فيها الكثير من المجاز والظروف، وفي مجتمع واحد يكون في بعض الأحيان تعميم الشعار في الأدبيات السياسية خاصة إذا كان ذلك من قبل النخبة يكون ذلك أشبه بالدعوة إلى تطبيق عدالة الشارع.

في السابق كان تعبير المحاسبة أو المساءلة هو الذي يستخدم في ظروف مشابهة عندما يكون هناك غضب اجتماعي أو سياسي، وهو تعبير أكثر مواءمة في العمل السياسي باعتباره لا يستبق حكم العدالة والقضاء الذي قد يكون له رأي آخر قد لا يكون مرئيا للجمهور الذي عادة ما يكون في الحالات الثورية يريد عدالة سريعة وفورية تشفي غليله وهي في معظم الأحيان لا تكون عدالة حقيقية، ويكتشف لاحقا أنه كان فيها الكثير من الظلم.

المشكلة في «شعار القصاص» السياسي هو أن دوامته لا تتوقف وأبرز مثال عليه الثورة الفرنسية التي أمضت نحو 10 سنوات فيما يسمى بحقبة الإرهاب المقاصل فيها معلقة، كل يوم تلتهم العشرات حتى وقعت رقاب الذين صنعوا الثورة أنفسهم تحت رحمة هذه المقاصل.

في مصر كان هناك اتجاهان بعد 25 يناير، الأول كان يرى أن العدالة التقليدية لا تصلح في محاسبة أركان النظام السابق أو المتسببين في قتل متظاهرين. وبالتالي يجب أن يكون هناك ما يشبه المحاكم الثورية التي تصدر أحكاما سريعة ورادعة، والثاني وهو الذي أخذ به وهو اللجوء إلى القضاء الطبيعي باعتبار أن أحد الشعارات الأساسية لـ25 يناير كان العدالة وهناك تجربة سابقة للمحاكم الثورية في مصر، ثبت تاريخيا أنها لم تكن عادلة وأنها كانت في أحيان كثيرة محاكم كرتونية أحكامها جاهزة وكانت تصفية حسابات أكثر منها عدالة حقيقية وبما ألحق الظلم بكثيرين.

المشكلة أنه على الرغم من الأخذ بهذا الاتجاه ظلت نخب سياسية تريد دغدغة عواطف الشارع ترفع شعار القصاص بدلا من المحاسبة أو المحاكمة، بما خلق فجوة بين ما هو متوقع من أحكام، وما يصدر عن القضاء وأدى ذلك إلى مواجهات وفوضى في قاعات المحاكم أخلت بهيبة القضاء، وحتى بجدية الإجراءات المتخذة.

وما نراه اليوم من اضطرابات هو جزء من تداعيات السير طويلا في مشوار القصاص، فقد كان هذا مطلبا مرفوعا بشكل مستمر بعد أحداث مباراة كرة القدم بين النادي الأهلي والنادي المصري في بورسعيد والتي أدت إلى مقتل أكثر من 70 مشجعا في ظروف تبدو غريبة، والآن بعد أن صدرت أحكام إعدام جماعية بحق 21 متهما أصبح هناك غضب في مدن القناة بما أدى إلى فرض طوارئ وحظر تجول فيها، وسقط عدد من القتلى يفوق عدد الذين حكم بإعدامهم، وإذا طالب أهالي هؤلاء أيضا بالقصاص فلن تنتهي الدوامة.

لا يقلل أحد من فداحة ما حدث سواء في مباراة الكرة الأولى أو في أحداث بورسعيد، والسويس الأخيرة، لكن هذا ليس وقت مزايدات بشعارات القصاص، أو مداهنة الغوغائية، وواجب النخبة السياسية بكل أطيافها أن ترتفع إلى مستوى الحدث، وأن يكون التفكير سياسيا وليس انتقاميا حتى لا يكون هناك شقاق بين أبناء الوطن الواحد، فوجود ثلاث محافظات مهمة غاضبة يعني أن هناك مشكلة حقيقية تستدعي حكمة سياسية في التعامل معها.