الخطر على الأمة.. من أبنائها!

TT

القمة الاقتصادية الثالثة التي عقدت في الرياض الأسبوع الماضي، كان شعارها المرفوع القضاء على الفقر والبطالة في العالم العربي، وهو شعار براق يؤخذ المرء به، وكانت القمتان السابقتان في الكويت وشرم الشيخ قد بحثتا القضية الاقتصادية العربية، وهي قضية كان قد عقد لها قمة سابقة قبل ثلاثين عاما في عمان العاصمة الأردنية، وقتها زخرت أضابير تلك القمة بالدراسات المستفيضة ونمت حولها آمال لم تتحقق. معظم الجهود التي بذلت للنهوض بالاقتصاد العربي ذهبت أدراج الرياح. من هنا كانت قمة الرياض قد شددت على أهمية تطبيق ما اتفق عليه في الورق وأن تكون له نتائج على الأرض.

القمم السابقة بما فيها شعار قمة الرياض نظرت إلى مكان قريب هو آلة الاقتصاد العربي وما حولها.. القضاء على الفقر والبطالة (السافرة أو المقنعة) أوجب النظر إلى مكان آخر بعيدا عن آليات الاقتصاد المباشرة. إنه شيء يعرفه كثيرون بـ«رأس المال البشري»، أي التعليم والتدريب، الذي يتدنى في عالمنا العربي كما لم يحدث قط من قبل ويمارس بشكل مفرغ من محتواه.

كواليس القمم الاقتصادية الثلاث كانت تعج بالخبراء من كل نوع، إلا أن خبراء تفعيل رأس المال البشري لم يكن لهم ظهور، وحتى في الأدبيات التي خرجت من القمة، فأهل المال قليلا ما ينظرون إلى التعليم من حيث «الكفاءة» على أنه القاطرة لأي تنمية، بل هو قاطرة السلم الأهلي، وبسبب قربه من السياسة يصبح في خانة المسكوت عنه!

ما يعانيه العرب اليوم في اقتصادهم وسياستهم واجتماعهم نابع من فقدان القدرة على بناء منظومة تعليمية حديثة تتعامل مع المحيط العالمي بكفاءة.. فتيسير السكن، والعمل، والخدمات، وحتى العلاقات الإنسانية، يبدأ وينتهي بجودة التعليم.

أمامنا تاريخيا الكثير من التجارب، أختار اثنتين؛ الأولى عندما أرسل الاتحاد السوفياتي رجلا إلى الفضاء الخارجي، كان رد الولايات المتحدة لجنة موسعة أصدرت بعد ذلك تقريرا ما زال في ذهن أهل الذكر بعنوان «أمة في خطر» يتحدث التقرير عن أهمية تجويد التعليم في الولايات المتحدة للحاق بالسباق. والثانية لما قرر مهاتير محمد - في الثمانينات من القرن الماضي - أن يعبر بشعبه في ماليزيا إلى بر الحداثة، كان أمامه هدف واحد؛ تجويد التعليم. وكلما ذكر أمامه شيء من نقص في الأموال أو الموارد الأخرى، قال لهم «التعليم» وقد أصبح كتابه المشهور «التحدي» قبلة لأهل العالم الثالث. أما تقرير التنمية الإنسانية العربية الذي ذاع صيته والصادر من الأمم المتحدة، وقد قام بتأليفه نخبة من المهتمين العرب، وخاصة تقرير 2002، فقد أصدر صيحة عالية في أهمية النظر إلى التعليم العربي وتجويده كرأس مال حقيقي للتنمية. أحد التناقضات العربية أن المال (كثرته أو قلته) لعب دورا موحدا في تدهور التعليم العربي، وساهم في الوقت نفسه في إهدار قيمة التعليم. لقد تسبب في الشرين.. زيادة في البطالة، وزيادة في البطالة المقنعة، لأنه تعليم مفرغ.

في البلدان التي ينقصها التمويل كان نقص المال لعنة على مسيرة التعليم، فقد قرر أهل السياسة أن التعليم المجاني هو السبيل إلى ربح الجمهور، فأصبحت المدارس والجامعات من حيث العدد بالآلاف ومن حيث الجودة بالأصفار، كدس الطلاب في الصفوف، وشحت المواد المساعدة على التعليم، وافتقر المنهج – بسبب التدخلات السياسية – إلى الحد الأدنى من فتح أذهان الشبيبة على الحياة ومتطلباتها كما هو في الواقع لا في الخيال. المعلم فقير في حصيلته العلمية، ومفقر للطالب في تلك الحصيلة، ودفع للمجتمع من يفك الخط، من دون ما يفتح الذهن. جامعات تعج بالطلاب لا يكاد الأستاذ يعرف أيا منهم على وجه التحديد، وتخرج في تلك الجامعات زرافات من البشر متعلمين على الورق، وفي الحقيقة هم أقرب إلى الجهل، خطورة مثل هذا النوع من الناس أنه يعتقد أنه يعرف، وهو لا يعرف!

في المقابل فإن بلاد الفائض المالي أصابتها نفس اللعنة.. زرافات من الطلاب يفدون إلى المدارس والجامعات وفي أذهانهم هدف واحد؛ الوظيفة التي تهيئها لهم مجتمعاتهم من دون تعب أو حتى تنافس. وكثيرا ما يجيب الطلاب الذين أسألهم عن ماذا يعني لك التعليم، يقولون: «راتب آخر الشهر»!

التعليم بمعناه الكيفي، بجانب كونه يحقق أو من المفروض أن يحقق، ثلاثة أهداف كبرى، هي المعرفة، والمهارة، وموقف إيجابي من الحياة، يسعى أيضا إلى تنمية الشعور بالكرامة الإنسانية. وعلى الرغم من أن بلادا عربية كثيرة قد استطاعت أن تدفع عددا كبيرا من مواطنيها إلى مقاعد الدراسة من حيث الكم، فإن الغالب هناك افتقاد - يكاد يكون مزمنا - من حيث الكيف.

يشحن أبناؤنا في جميع مراحل الدراسة بحفظ وتسميع، وعندها يصبحون إناء فارغا، يستطيع أن يقودهم - وعفوا على التعبير - كالقطيع - من يحتويهم أولا بمعسول الكلام، من هنا نجد تلك التيارات التي تنقاد واضعة عقولها في استراحة طويلة، وهي تلهث خلف أفكار إما طوباوية وإما خرافية من دون إعمال للعقل.

البعض يرى أن هناك أجندة خفية لدى بعض من قاد التعليم بوضع سياسة «تعليم الجهل» إن صح التعبير، والبعض يرى أن قضية التعليم والتدريب هي في آخر أولويات أي سياسي عربي، بسبب فقدانه للرؤية؛ تتعدد التفسيرات، ولكن النتيجة واحدة.. فقر شديد في رأس المال البشري العربي، الذي تخرجه المدارس والجامعات العربية، من أجل وضعه كترس في آلة، لا مواطن واع ومبتكر.

في السنوات الأخيرة ونتيجة لما يفرضه التعليم - خاصة الشهادات العليا - من وضع اجتماعي، كثرت الجامعات الخاصة، ولكنها سرعان ما لحقت بالجامعات الرسمية في إنتاج الكم لا الكيف، هذه المرة لأسباب منفعية مالية. وربما إشارة إلى ما يفعله الآخرون هنا مفيدة، فتنظيم الجامعات الخاصة في بلد مثل ألمانيا موضوع في صلب الدستور الألماني الاتحادي.. شروطها ومواصفاتها واضحة ودقيقة لا حياد عنها! فكيف توضع مواصفات للمنتج الاستهلاكي ولا توضع للمنتج الأهم، وهو رأس المال البشري؟!

كيف يمكن أن يحقق مجتمع تنمية وهو فقير في التعليم والتدريب، بل وبعض ما يفرض على طلابنا يقودهم إلى التحيز وتوسيع رقعة الكراهية للآخر، وازدراء العمل اليدوي، أي هناك جهود منظمة للتعليم السالب.

إذن ليس بجديد ولا مفاجئ أن نجد كل هذا التعصب حولنا، وكل هذا الاتباع لقيادات تأخذ الجمهور إلى التخدير الناعم بمعسول الكلام، لأنه فاقد المناعة الثقافية للحكم الصحيح على الأشياء، في كل شؤوننا الحياتية الاجتماعية والسياسية وحتى الطبية. فكيف نفسر أن امرأة تشتكي من وجع الرأس الدائم يصف لها مشعوذ على التلفزيون أن تذبح ديكا أسود؟! وليس بجديد إهمال تقديم الخدمات للجمهور، لأن من يقدمها لم يدرب على أهمية ذلك العمل بكونه احتراما للنفس والآخرين، فتتدنى الخدمات إلى الحضيض.

حقيقة الأمر أننا نحتاج إلى قمة تعنى بالتعليم والثقافة، بمعناهما العميق، حيث أصبح اليوم كثير من تجارب العالم تدلنا على أنهما قاطرة فعلية للتنمية، ومن خلال إصلاحهما يصلح الكثير.. من تخفيض نسبة البطالة إلى تخفيض نسبة الفقر، الفقر الحقيقي يبدأ في العقول.

آخر الكلام:

في عصر الثورة المعرفية والطفرة المعلوماتية، يسجل العالم العربي واحدة من أعلى نسب الأمية في العالم، حيث البيانات الإحصائية حول واقع الأمية في الدول العربية تبين أن عدد الأميين لدى الفئات العمرية التي تزيد على 15 عاما بلغ قرابة 99.5 مليون، كما أن 75 مليونا من إجمالي الأميين العرب تتراوح أعمارهم بين 15 و45 عاما، هذا من دون حساب للأمية الحضارية!