إن أميناس.. تحد جدي للثقافة السياسية الجزائرية

TT

اتصل بي صديق جزائري عزيز خلال الأسبوع الماضي، وبعد السلام والكلام دخل الحوار في طريقة تعامل الإعلام العربي مع قضية رهائن إن أميناس، والأزمة الإقليمية الأشمل التي فجرها النزاع المسلح في مالي. وفي رأيي، وهنا أتفق مع صديقي الجزائري، أن ما حدث في إن أميناس يحتاج إلى اهتمام أكبر ومتابعة أعمق وأوسع مما حظي به. لكن ما قد لا يشاركني صديقي الرأي فيه هو أن ثمة قراءة جدية مطلوبة من الجزائر لواقعها الداخلي وفضائها الجيو - سياسي، ولدورها في العالمين العربي والإسلامي.

أكثر من هذا، أقول إنني لا أدعي معرفة وثيقة بالشأن الجزائري، لكنني أزعم بعض الإلمام بنظرة الجزائر إلى الدور الذي تؤمن بأنها مؤهلة للعبه مغاربيا وعربيا وأفريقيا ودوليا.

الثقافة السياسية الجزائرية نضجت على نار «ثورة المليون شهيد»، وبالتالي «الشرعية الثورية» التي لا تحتاج لاستئذان أحد إزاء من تحالف ومن تعادي. وأحمد بن بلة، ومن بعده - بل أكثر منه - هواري بومدين، ثبتا موقع الجزائر الراديكالية، وتعممت هذه النظرة الرومانسية في داخل البلاد على الرغم من انقساماتها الجهوية وفسيفسائها الثقافية، كما راجت خارجها على امتداد العالم العربي. والأزمات الإقليمية التي اختارت الجزائر أن تكون طرفا فيها نبعت من نظرة تلك الثقافة السياسية إلى ذلك «الدور» أو ذلك «الموقع». غير أن الانتصار المجهض للتيار الإسلامي في انتخابات ديسمبر (كانون الأول) 1991 جاء ليبين حقيقتين: الأولى، النهاية الفعلية لمثاليات «الشرعية الثورية» بعدما تحولت «الثورة» إلى «دولة»، وظهرت في «الدولة» طفيليات فساد، وطغت عليها لفترة أطول مما ينبغي ذهنية الحق المطلق بالسلطة بلا مساءلة.

أما الحقيقة الثانية، فكانت ظهور «الإسلام السياسي» لاعبا أساسيا في المشهد العام لبلد شاب يشكل المسلمون السواد الأعظم من السكان فيه، بل يعد الإسلام أقوى وشائج الوحدة الوطنية بين أكبر مكوناته الإثنية والثقافية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه في شمال أفريقيا، بالذات، كان للإسلام دور نشط في ترسيخ الوحدة الوطنية، وحتى «الشرعية الثورية» الجزائرية، على الرغم من خطابيات الثورة والنضال والاشتراكية، ما ادعت يوما أنها بعيدة عن إرث قامات إسلامية كبرى مثل عبد الحميد بن باديس.

ومع أن ثمة جهات في النظام سعت جهدها لافتعال «إسلام راديكالي» دموي يؤدي دور «الفزاعة» لتبرير قمع الإسلاميين، فإن قوة القمع السلطوي أسهمت في دفع مزيد من الشراذم نحو التطرف، الذي سرعان ما رسخ حضوره في مناطق عدة مهمشة من العالم الإسلامي، وصارت أجزاء كبيرة من أفغانستان واليمن وبعض كيانات شمال أفريقيا في آن معا مسرح عمليات وملاذات آمنة لتنظيم القاعدة والتنظيمات والجماعات المشابهة.

ولقد تضافرت عوامل الملاحقة - بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) في الولايات المتحدة وحروب «تجفيف منابع الإرهاب» - وتعنت بعض الحكومات المتسلطة، وتفاقم التناحر القبلي والعشائري، والتراجع الاقتصادي في دول عدة شارفت على بلوغ حالة «الدول الفاشلة»، في تركيز حضور هذا الشكل من التطرف في مناطق بعينها منها.. مالي.

أصلا حدود الكيانات التي رسمها الاستعمار في مناطق عدة من أفريقيا - وبالأخص الاستعمار الفرنسي في شمال غربي القارة - حدود عشوائية لا صلة لها مع الواقع. وثمة شعوب تمتد عبر هذه الحدود، وتتقاسم كياناتها كأقليات متناثرة وأحيانا متصارعة. ولعل الطوارق حالة مثالية تعبر عن هذا الواقع، فهم يتوزعون في عدة كيانات بينها الجزائر وليبيا. ومثل الطوارق، هناك الفولاني الذين ينتشرون من غينيا غربا وحتى تشاد شرقا.. وتتغير أسماؤهم - مثل الفولا والفولفولدي والبل والفلاتة - تبعا للكيانات والشعوب التي يتقاسمونها.

هل بوغتت القيادة الجزائرية بما حدث في إن أميناس؟ واستطرادا، أما كان ما حدث مرتقبا - من الناحية المنطقية على الأقل - في ظل اضطراب مالي وانتصار الثورة الليبية؟

أين المنظور الاستراتيجي للجزائر، التي تحفظت بعناد عن دعم الثورة الشعبية السورية.. فأسهمت ولو بقسط محدود في إطالة أمدها، ومن ثم، تعزيز حضور نفر من الجماعات المتشددة فيها؟

ما هو تقييم القيادة الجزائرية اليوم لدورها في «ربيع عربي» دخل مرحلة إعادة التعريف بكلفة إنسانية واقتصادية باهظة؟ ألم يحن الوقت بعد لكي تنحسر المثاليات، وبدء التعامل مع التحديات الجدية بوعي ومسؤولية.. بينما تتزايد على امتداد الوطن العربي أخطاء التشدد الديني بعدما أطاحت أخطاء أنظمة ما قبل «الربيع العربي»، في آن معا، بتلك الأنظمة وطروحاتها التي طالما ادعت الليبرالية والتقدمية زورا وبهتانا؟