مباراة لا مظاهرات

TT

تنازع البقاء وبقاء الأصلح، المبدأ الأساسي لنظرية التطور، يأخذ شتى الأشكال العجيبة في تاريخ البشر. كانوا في عصور الهمجية يهجمون ويقتل بعضهم بعضا. ولكن حالما أقيم مجتمع المدينة وضعوا ضوابط للسلوك، أولها «لا تقتل». فتحول تنازع البقاء إلى منافسات مدنية أو حروب بين الدول. أخذت المنافسات أشكالا مختلفة. كان منها المباريات الرياضية. من الواضح أن الشباب لهم طاقات يقتضي تصريفها بشكل أو آخر. عمد الإنجليز إلى تطوير مباريات كرة القدم والرغبي والهوكي والتنس لتصريف هذه الطاقات والتنفيس عن غريزة تنازع البقاء.

يعاني عالمنا العربي في هذا العصر الحديث من كل هذا العنف والإرهاب والثورات والحروب الأهلية. هذا ما يجري الآن. ولكنني أتذكر أنه في زمن آبائنا كان الشباب في العراق وربما في الدول العربية الأخرى أيضا ينفسون عن هذه الروح بما كان يعرف بمعارك المحلات (الحارات)، التي أسهب الدكتور الوردي في وصفها. كان شباب كل محلة، مثلا البارودية، يحذرون شباب محلة مجاورة مثل الصابونجية بأنهم سيهجمون عليهم بالحجارة. فيستعد هؤلاء للدفاع عن زقاقهم. يجمعون ما يكفي من الحجارة وينتظرون اليوم المحدد. تبدأ المعركة وتستغرق عدة دقائق أو عدة ساعات. يرشق كل منهم الفريق المقابل بالحجارة. المعتاد أن تنتهي بالمصالحة والأكل معا على طنجرة شوربة أو صينية كباب. ولكن تمتد أحيانا وتصبح عداوة تاريخية. فلا يجرؤ أبناء البارودية على دخول أزقة الصابونجية والعكس بالعكس. ترتب على هذه المعارك تراث من الأغاني والأشعار والأمثلة، كقولنا: «انت ابن العوينة اش جابك لقنبر علي؟».

أعتقد أن انتهاء معارك المحلات ترك فراغا في حياتنا، يظهر أن الأحزاب السياسية والإرهابية قد شغلته، فجل هذه الأحزاب لا معنى لوجودها ولا لبرامجها ولا تلتزم بها. يتنافس بعضها طمعا في الكعكة، ولكن البعض الآخر كجماعات «القاعدة» أصبحوا يمارسون معارك المحلات ولكن بالقنابل بدلا من الحجارة. أعتقد أن من الحكمة أن نحتذي بما فعله الإنجليز. تحويل أحزابنا السياسية إلى نوادي كرة. تتنافس في ما بينها في الصيف، موسم الثورات والانقلابات، بدلا من موسم الشتاء التقليدي لكرة القدم. نقدم لها ما يكفي لبناء نوادٍ وملاعب واستخدام مدربين ومنظمين عالميين. بدلا من كل هذه البرامج السياسية السخيفة التي لا تؤمن بها ولا تفهمها ولا تطبقها هذه الأحزاب يعطى لكل فريق قمصانه الخاصة. مثلا يعطى الاشتراكيون قمصانا برتقالية، والشيوعيون قمصانا حمراء كتب عليها «يا عمال العالم اتحدوا!»، والإسلاميون قمصانا بيضاء، والسلفيون قمصانا سماوية اللون، وجماعة المالكي قمصانا من الذهب الخالص، وجماعة علاوي قمصانا بكلمة «وحدة واشتراكية»، وهكذا.

تجري المباريات بكثير من التشجيع والضجيج والتغطية الإعلامية. تعطي الصحف صدارتها لأنبائها. فنستمتع حقا بوجود هذه الأحزاب بدلا من كل هذا الإزعاج.