بدوي عاشقا

TT

أدق ما وصف به الدكتور عبد الرحمن بدوي أنه «منجم من التناقضات». عاش «غربيا» في الشرق، وثوريا لكن ضد 23 يوليو، وذهب يدرس في جامعة ليبيا مبشرا بحرية التعبير، فلما سمع القذافي بذلك أسرع به إلى السجن الذي أنقذه منه أنور السادات قائلا للسجان: «لقد قبضت على أحد أعمدة النور في مصر». ولم يعد بدوي إلى مصر، بل ذهب يدرس في الكويت، التي استقبلت أرقى العقول المصرية، من أحمد زكي إلى أحمد بهاء الدين، ومن الكويت إلى غرفة في فندق «لوتيسيا» الباريسي، إلى أن أصيب بالمرض، فنقله حسني مبارك إلى القاهرة للعلاج، وفيها توفي عن 85 عاما، سنة 2000.

الجميع أخذوا بأعمال الدكتور بدوي وعلومه وبحوره الفلسفية واللغوية، وكثيرون أخذوا عليه طباعه ومظاهر الاستعلاء والافتخار واستصغار الآخرين، خصوصا في حقله، أو بالأحرى في حقوله الكثيرة مثل لغاته وأبحاثه ومؤلفاته وتحولاته ومراحله التي انتهت به في مذكرات من ثلاثة أجزاء، يعدد فيها بمن عرف وبمن لم يعرف، بحق وربما أيضا بغير عدل.

لكنني أكتشف من باب الصدفة، أو بالأحرى من باب البحث، أن ذلك الشامخ المكابر أذلته امرأة من لبنان. في «الحور والنور» يكتب إلى «سلوى» صاغرا: «دعيني أحلم بيديك»، و«نفسي الغداء لمن يهبني رنوا إليها». وإذ يشعر بالغربة في بلاد الأرز والصنوبر والجبال يخاطبها متحزنا: «أنا وحيد وفي وحدتي طعم العدم الأصيل»، واذ عينا سلوى «تمدان الظلال إلى حفافي الخلود».

ذلك كان أسلوب الهوى في الأدب آنذاك. وهكذا يخلط أستاذ الفلسفة التأمل بالشعر والنثر بالرموز والعشق بالتأثر الواضح بجبران خليل جبران: «آتوني بمجامر البخور فنفسي تواقة إلى عبير الموت. ردوا علي فضل أنفاسي فقد احترقت بلهيب القلق. خذوني إلى الينبوع القاني لأنوح مع الباكيات الشاكيات».

كل لزوميات النواح عند الدكتور من لبنان: الصخور والصنوبر و«ادفنوني في تراب اليأس عند السنديانة العتيقة». ثم ذروة الخضوع في ارتجاج الضلوع، الدكتور يهم بالركوع: «كم من مرة جثوت عند قدميك». ثم لا تلبث أن تلمح زفرات مصطفى لطفي المنفلوطي وآهات العقاد في مي زيادة: «سماء أحلامي لا ترنق فيها إلا الحمائم السود. أعيش في وطني ووطني منفاي. تمرح الدنيا حولي وكأني أنا وحدي الذي أنوح».

أخشى أن الدكتور بدوي ترجم أرق الشعراء، من شيللي إلى ريلكه، وظل عندما يكتب ينحت من صخر. ومن هي سلوى تلك؟ وهل كان هناك حقا سلوى، أم هي مثل «سلمى» جبران خليل جبران؟