كي لا نكرر أخطاء أفغانستان في مالي

TT

تحرير القوات الفرنسية لآخر مدن شمال مالي واستقبال السكان لها بالترحيب تم بالسرعة والكفاءة التي توقعناها كان بسبب قانونية التدخل (بطلب حكومة مالي ودعم منظمة الوحدة الأفريقية الأمم المتحدة).

لكننا حذرنا أيضا من أن إمكانية الفرنسيين وحدهم بتقديم ضمانات العيش، وتأمين الاستقرار والسلام الذي يرغبه شعب مالي، مسألة قصيرة المدى ومحدودة، وتتجاوز قدرة فرنسا وحدها على أي مدة تزيد على بضعة أسابيع أو أشهر على أكثر تقدير.

الجماعات التي كانت أرهبت سكان شمال مالي ليست جماعة واحدة أو تنظيما متسقا، وإنما جمعتهم الظروف. الأخطر في الجماعات هو فرع تنظيم القاعدة والعصابات الإرهابية الملتحقة به، ونشاطها هو الإرهاب لغرض الإرهاب (وهم من إفراز أفغانستان، وتطورت عما عرف بـ«المجاهدين» في ثمانينات القرن الماضي) وهم مرتبطون مباشرة وغير مباشرة بجماعة إرهاب مركز الغاز أميناس في الجزائر..

وهناك عصابات تهريب المخدرات والسجائر والبضائع، وقطع الطرق والاختطاف، أي إن دوافعهم إجرامية أكثر منها آيديولوجية. أيضا مجموعات الطوارق الانفصالية بين السكان المحليين في شمال مالي، ولهم مطالب قانونية وجغرافية وسياسية واقتصادية مشروعة، دفعتهم للتمرد ضد حكم الجنوبيين، وكان تحالفهم مع «القاعدة» والمجموعات المتطرفة مرحليا وفرضته الظروف.

دراسة خريطة القوة لا تشير إلى وجود أسباب قوية ومصالح مشتركة لضرورة حتمية لتجديد تحالف هذه المجموعات التي أرهبت سكان شمال مالي واضطرت الحكومة لطلب التدخل الفرنسي.

على العكس، فهذه المجموعات تفككت. والنشطاء السياسيون بين الطوارق على الأغلب ربما تعلموا الدرس بأن تحالفهم مع الإسلام السياسي المتطرف، يؤدي إلى خلق هوة ثقة بينهم وبين مواطنيهم الذين تعرضوا لقهر الإسلامجيين.

فحسب التقارير العسكرية الأولية، لا يوجد تنسيق حاليا بينهم وبين زعماء «القاعدة» المحليين والإرهابيين الذين فروا إلى الجبال المجاورة، أو عبروا الحدود إلى النيجر (قوات النيجر تبذل جهودها بقدر المستطاع في مطاردتهم).

عصابات التهريب انسحبت أو نزلت تحت الأرض وذابت، وليس في مصلحتها (أو من أهدافها) الانخراط في عمليات إرهابية انتقامية ضد القوات المالية الحكومية وحلفائهم من الفرنسيين والقوات الأفريقية (بروباغندا «القاعدة» والجماعات الإرهابية والفضائيات المعروفة ستسمي هذا الإرهاب الموجه ضد سكان مدن شمال مالي «مقاومة الاحتلال الفرنسي»).

أي لا توجد أسباب موضوعية أو مصالح مشتركة أو ضرورات عملية لتوحد هذه المجموعات في جبهة واحدة «إلا إذا منحناهم نحن بسياساتنا أسباب هذا التوحد والتحالف»، على حد قول البروفسور مايكل كلارك، مدير معهد دراسات القوات العسكرية الملكية الموحدة في لندن (RUSI)، والمقصود بـ«نحن» هو المجتمع الدولي، وحكومة مالي وقوات الوحدة الأفريقية.

البروفسور كلارك يقصد استيعاب درس أفغانستان، بتجنب أخطاء تطبيق تحول ترحيب سكان شمال مالي بالقوات الفرنسية، إلى شك في نيات الوحدة الأفريقية وبلدان دعم التدخل، وإلى خيبة أمل في تحقيق مطالب الطوارق المشروعة، والتي أدت أصلا إلى تحالفهم مع الجهاديين.

فسيطرة الجهاديين على شمال مالي كانت نموذجا كلاسيكيا لنشاط «القاعدة» السابق، باستغلال انهيار الدولة أو ضعف الحكومة المركزية وعجزها عن إدارة مساحة نائية جغرافية كبيرة، وغير قادرة على (أو غير راغبة في) توفير حاجات سكان هذه المناطق، وهم من إثنية مختلفة (كمناطق وزيرستان في باكستان، والصومال وأفغانستان واليمن قبلها).

ولذا فمجرد الإصلاح السياسي الظاهر في مالي بإجراء انتخابات نزيهة بشفافية بإشراف دولي، والوحدة الجغرافية بين أفارقة الجنوب، وطوارق الشمال والوعد بإنهاء إقصائهم عن المناصب العليا وحدها لا تكفي بغير إجراءات عملية على أرض الواقع.

النجاح في مالي يتطلب صم الآذان عن صياح التيارات المعتادة التي تغلف معاداتها للمفهوم الكوني الإنساني للديمقراطية بما ستسميه «رفض تدخل الاستعمار القديم»، لأن مفتاح الحلول العملية بيد فرنسا حاليا، وعلى البلدان الأفريقية والإسلامية دعمها.

لا بد من التعجيل بإصلاح العملية السياسة في مالي التي شهدت تطورا ديمقراطيا وإصلاحا يدعو للإعجاب (بالمستويات الأفريقية) في التسعينات، لكن الفساد وإساءة استغلال الموارد وتوزيعها، عرقل التطور السياسي نحو الديمقراطية، حتى أصابها الوباء الأفريقي (الانقلاب العسكري)، في مارس (آذار) الماضي على يد ضابط أميركي التدريب، فتحطم زجاج فاترينة الديمقراطية الهش كاشفا عن مدى عمق عفن البضاعة في المخزن.

الخطوة الثانية هي إقناع العسكر الذين استولوا على الحكم بالعودة للثكنات بدلا من دس أنوفهم في السياسة وهو تحد يشبه المعضلة يواجه الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند.

فنجاح المشروع الفرنسي في اجتثاث بذور الإرهاب واستعادة ديمقراطية تسعينات القرن الماضي، يحتاج إلى دعم وتعاون عسكر مالي والتزامهم بالاستراتيجية الفرنسية. وبدورهم، سيشترط العسكر ثمنا سياسيا مقابل دعمهم للقضاء على وجود الجهاديين، والأمر يحتاج لدبلوماسية دهاء بريطاني أكثر من الدبلوماسية الفرنسية المباشرة.

إيجاد الحل للضغط على العسكريين يكون في إشارة واضحة من الاتحاد الأفريقي (ويجب التنسيق مع فرنسا والمجتمع الدولي) إلى أن شرط المساعدة العسكرية والمادية هو عودة الجيش للثكنات وخضوعه لحكومة منتخبة مع ضمانات بعدم تصفية حسابات ضد العسكر، أي خروج آمن للجنرالات.

الشرط الأهم هو حل سياسي دستوري اقتصادي اجتماعي ثقافي للمشكلة الإثنية وإجابة مطالب القوميين الطوارق في الشمال حتى لا يتجدد مطلب الانفصال (الطوارق خاضوا الكفاح، والكثير من فتراته مسلحا، ضد حكم الجنوبيين لنصف قرن)، والذي كان وراء تحالف نشطائهم السياسيين مع الجهاديين في العام الماضي.

وإيجاد صيغة للاعتراف بطموح الطوارق وتوجيه الاستثمارات والدعم الاقتصادي لمناطقهم، دون استفزاز الجنوبيين وإثارة النعرات أمر ليس بالهين (مثلا سياسة الدعم السخي للسلع الاستهلاكية والمعونة الاقتصادية السخية لسكان مناطق الصحراء الانفصالية في جنوب المغرب تثير كثيرا من حنق المغاربة في الشمال لأنهم لا يتلقون مثل هذا الدعم السخي).

هذه التحديات والتقسيمة العرقية الجغرافية تحتاج لطرف خارجي للتوفيق والتواصل والاعتماد على مخزون تجربة ديمقراطية غنية للماليين. ومثلما شهدت مالي في التسعينات مؤتمرات الحوار الوطني، لا بد من مؤتمر الحوار الصريح ومصالحة لكل الأطراف، خاصة أن حركة استقلال الطوارق انفصلت عن جهاديي «القاعدة»، فسرعة التوقيت مهمة. ويمكن معالجة هذه الإشكالية باشتراط عدالة التوزيع بين الشمال والجنوب (وتستطيع الدول المانحة فرض هذه الشروط)، أو التوصل لنوع من الحكم الذاتي للطوارق في الشمال في إطار وحدة فيدرالية باتفاق تبادل مصالح يدعم اعتماد الشمال اقتصاديا وعسكريا وسياسيا على الجنوب والعكس.

واصلوا الكاتب على «تويتر» @Adel Darwish