شعوب وقادة

TT

سنغافورة بلد أقل ما يمكن أن توصف به هو أنها مبهرة وناجحة بكل المعايير والمقاييس المختلفة، وذلك بالرغم من حداثة التجربة بشكل عام، وليس بسرّ أن هذا النجاح يعود بشكل رئيسي إلى شخصية السياسي الأشهر فيها رئيس وزرائها الأسبق لي كوان يو، وهو الذي عرف بأنه صانع مجد سنغافورة، والذي حول هذه الجزيرة الصغيرة من مرفأ للقراصنة إلى محرك صناعي وخدمي يضاهي أهم وأكبر اقتصاديات العالم، ترك هذا المنصب منذ سنوات، بعد أن كان لمدة 30 سنة التنفيذي الأول في هذه الدولة، أدارها وخطط وأجاد وكان أول من نادى برؤية الانتقال للعالم الأول في بلاده.

وها هو اليوم يصدر كتابا جديدا مهما يقدم فيه رؤيته السياسية الاستراتيجية للصين والولايات المتحدة الأميركية والعالم، وهو كتاب يصدر بالاشتراك مع اثنين من أهم أساتذة جامعة هارفارد العريقة، هما غراهام أليسون وآلن وين، مما يؤكد على حجم وثقل الرجل وفكره ووجاهة آرائه في الشؤون الدولية الكبرى.

وآراء الرجل فيما يخص الصين تحديدا كانت سابقة لعصره بكثير، وكان يصر منذ الستينات والسبعينات على أن الصين هي فرس الرهان المستقبلي، وأصر على أن تكون «لكنة» الماندرين الصينية أساسية في التعليم الرسمي السنغافوري، وهي مسألة لم يستوعبها الناس لبلد خارج للتو من استعمار إنجليزي يحيطه من كل صوب متحدثو الإنجليزية في عالم يموج بلغة التجارة الرسمية الإنجليزية.

ولكن الرجل أدرك أن الصين «تجارية» بطبعها، وأثبت ذلك الجالية المهولة الموجودة في المهجر حول العالم والناجحة والمتفوقة جدا، وبالتالي الانفتاح الذي تبناه الزعيم الصيني الراحل داو زياو بنج ضد تعاليم ماوتسي تونغ الزعيم الشيوعي الأسطوري كان لا بد أن يأتي بثماره عاجلا أم آجلا، لأنه يتوافق مع طبيعة الصين التاريخية.

وهذا ما راهن عليه لي كوان يو الذي يجزم بالتالي أن الصين ستكون الدولة الأولى اقتصاديا وسياسيا، لأنها بدأت تذوق النجاح، ولن ترضى إلا بالمركز الأول، ويساعدها على ذلك التدفق المالي الهائل الذي تحصل عليه جراء النجاحات الاقتصادية المتواصلة لها. ويقول الرجل أيضا في لمحة لافتة، إن الصين لن تكون أبدا ديمقراطية ليبرالية كما في الغرب، ولكن سيكون للبرلمان دور متصاعد ومتطور فيها مع التركيز على مكافحة الفساد وعدم التضحية بالأمن وتطوير مستمر للتعليم والاقتصاد، ويعتقد الرجل أن التقنية الحديثة سوف تكون المحرك الأهم في تغيير الواقع الصيني، لأنها ستغير من أسلوب الحوكمة الحالي، بسبب أنه في عام 2030 ستكون 70 % أو حتى 75 % من السكان في مدن أو مدن صغيرة وقرى، وسيكون لديهم هواتف جوالة وإنترنت ومعلومات، ولن يكون بالإمكان حكمهم كما كان في السابق.

لي كوان يو أحد «القادة الاستثنائيين» الموجودين اليوم، قادة برؤية تبنتها دولهم وسعت لتطبيقها، مثله مثل مهاتير محمد في ماليزيا، الذي كانت لديه رؤية 2020، وهي ببساطة تعني أنه بحلول عام 2020، ستكون دولة من دول العالم الصناعي الأول، وهي في الطريق لتحقيق ذلك وبامتياز، وكذلك الأمر بالنسبة للرئيس الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا، الذي قدم مثالا أسطوريا في الحكم وتقديم النموذج الوطني الحقيقي الذي يوحد البلاد على طريق واحد يتفق فيها الفرقاء، مهما كانت الخلافات والفروق والفجوات بين الأطراف المختلفة، وكذلك الأمر بالنسبة لرجب طيب أردوغان في تركيا، الذي قدم نموذجا مهما في القيادة لبلاد كانت في ذيل القائمة الخاصة بالإنتاج والحوكمة والفساد، ومصدر إلهام للطرف والنكات والغرائب والتندر الكثير، حتى قام أردوغان بتوجيه البلاد نحو هدف واحد، وهو تطوير سمعة البلاد عبر الانفتاح على محيطها بتطوير الإنتاج والصناعة والخدمات والسياسة والثقافة التركية، ولكن دون أطماع استعمارية بأي شكل من الأشكال.

وهذا يدعو للمقارنة مع شخصيات مثل صدام حسين وبشار الأسد ومعمر القذافي الذين «نصبوا» على بلادهم وشعوبهم، باسم البعث، وهي حركة خادعة غرضها إثارة الفتنة واستعباد الشعوب وتدمير الجيران وتحويل البلاد إلى سجن كبير يتم استبعاد الشعب فيه تحت شعارات المقاومة والعروبة، وكذلك فعل معمر القذافي بمشروعه (الكتاب الأخضر)، وبلده الذي حوله إلى سيرك كبير باسم «الجماهيرية»، وجعل كل ذلك أشبه بفيلم تهريجي هائل.

القادة الذين لديهم رؤية عظيمة تجند كل الشعب نحو تحقيقها بشكل متواصل ومستدام هم الذين يجعلون دولا ناجحة، وأخرى مشغولة بفشلها، ولي كوان يو بكتابه الأخير يذكرنا بذلك.

[email protected]