الثورة الصناعية أم الثورات

TT

أنا من عشاق حقائق العلوم. جرني ذلك إلى مشاهدة البرنامج التلفزيوني للـ«بي بي سي»، بعنوان: «لماذا وقعت الثورة الصناعية هنا؟» للباحث جيرمي بلاك.

إذا كانت هناك أمّ شرعية لكل الثورات المعاصرة، فهي الثورة الصناعية التي انطلقت في بريطانيا في القرن التاسع عشر. تعود لها كل هذه المستجدات التي نجدها حولنا؛ كيف بدأت ولماذا في بريطانيا؟

يقول هذا الباحث، الذي قضى 30 سنة من حياته يبحث في أمرها، إن من أهم أسبابها وجود الديمقراطية وحرية الفكر في بريطانيا. فبينما قيدت الكنيسة حرية المفكرين في القارة (أوروبا من دون بريطانيا) ومنعتهم من إبداء أي رأي يتناقض مع الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة، وأعدمت حرقا شتى العلماء، وسجنت غاليليو وكادت تحرقه معهم، لولا توبته واعتذاره وتراجعه عن نظرياته، تمرد الإنجليز على سلطة الفاتيكان هذه، وقطعوا علاقاتهم بروما، وهدموا الأديرة والمؤسسات الكاثوليكية، وأطلقوا العنان للتفكير الحر الذي تمخض في القرن الثامن عشر عما سمي بـ«عصر العقل» (Age of Reason)، فبرز كل أولئك النجوم اللامعة في تاريخ العلم البريطاني، كإسحاق نيوتن. بحثوا وجربوا واستنبطوا فتوصلوا لقانون الجاذبية ورصدوا الأفلاك، فاكتشفوا كوكب أورانوس، وضموه للمجموعة الشمسية. أصبح الذهن متفتحا ومؤمنا بقوى الإنسان الخلاقة والقادرة على المعرفة والاكتشاف. وبفضل العقل المتفتح والمنقب والمجرب التفتوا لقوة البخار. أسرعت إحدى شركات المناجم، فصنعت منه أول ماكينة تعمل بالبخار؛ المضخة البخارية لسحب الماء من مناجم الفحم. فزاد إنتاج الفحم الحجري وهبطت أسعاره. اكتشف القوم قدرات العلم في الصنع وتحقيق المطلوب، فكلفت شركات أخرى المهندسين والحدادين بصنع مكائن تعمل بالبخار. وإذا بهم يضاعفون الطاقة الإنتاجية أضعافا فأضعافا. وجاء جيمس واط، فطبق ذلك على وسائط النقل، وصنع أول قاطرة تسير بالبخار على السكة الحديدية.

انخفضت تكاليف النقل وأسعار الفحم الحجري وتكلفة البضائع، ملأوا بها الأسواق، ثم راحوا يصدرونها لسائر أنحاء المعمورة، فيما كانت دول القارة غارقة في المشاحنات والثورات والصراع بين الكنيسة والدولة والأوساط العلمية. بتدفق البضائع الإنجليزية للخارج، راحت وارداتها تتدفق للداخل، فتعاظمت الثروة الوطنية بما مكّن بريطانيا من السيطرة على خُمس العالم، وأصبحت سيدة لأكبر إمبراطورية في التاريخ.

هكذا فجر الإنجليز الثورة الصناعية التي بنت مجد الإمبراطورية. ولكنها لم تغرق العالم ببضائعها الرخيصة والدقيقة فقط، بل أطلقت الإنسان من عقال القيود القديمة وعلمته هذا الشيء الفريد: باستعمال العقل والتفكير الحر والتجريب العملي، يستطيع تحقيق كل ما يصبو إليه ويحتاجه، ويتغلب على كل ما يكدر حياته ويعرقل مسيرته. لا عجب أن تحولت كل تلك المنشآت الصناعية الأولى إلى مراكز سياحية الآن يتفرج عليها الأجانب ويتعلمون منها؛ هنود ويابانيون وصينيون وكوريون، رأيتهم في كل زاوية من تلك المرافق، ولكنني لم أجد عربيا واحدا بينهم، ولا حتى من الصومال.