أحطك في قلبي وأقفله قفلتين

TT

بينما كنت أمشي الهوينا، أو بمعنى أدق بينما كنت (أتمخطر) في نهار بارد ومشمس بجانب نهر (السين) في باريس، وكنت على وشك أن أعبر جسر (بونت أرتس)، لفت نظري آلاف الأقفال المغلقة والمتشبكة بالحديد، ووقفت متأملا تلك الظاهرة العجيبة.

وبينما كنت على هذه الحال، وإذا بفتاة لها (طلة حلوة) تتوقف بجانبي، واعتقدت للوهلة الأولى أنها تريد شيئا مني، فتحفزت لا شعوريا أن ألبي مطلبها على كامل الاستعداد، غير أنها للأسف لم تعرني أي اهتمام، بل إنها لم تلتفت أو حتى تنظر في وجهي، وكل ما فعلته أنها فتحت حقيبتها وأخرجت منه قفلا كبيرا وشبكته في إحدى الحدائد ثم أغلقته، ولوحت بمفتاحه قاذفة به بعيدا في النهر، ثم واصلت سيرها وكأن شيئا لم يكن، وهذا مما زاد وضاعف من استغرابي، فاتجهت إلى قفلها قائلا بيني وبين نفسي (ريحة أبو زيد ولا عدمه).

لم أجد في القفل أي شيء يذكر، اللهم إلا بقعة صغيرة حمراء من (المونيكير) مرسومة على شكل قلب، فازداد عجبي أكثر وأكثر، حاولت أن ألحق بالفتاة لأسألها عن ذلك، غير أنها اختفت عن نظري وكأن الأرض قد بلعتها.

وفي المساء تقابلت في أحد المقاهي مع صديق تونسي يحمل الجنسية الفرنسية، وحكيت له عن تلك الفتاة والمونيكير والجسر وآلاف الأقفال التي شاهدتها وسألته عن تلك الظاهرة وما أسبابها، فأخذ يضحك من جهلي، ولو أنه كان يحفظ شيئا من شعر نزار قباني لقال لي حتما: (متى تفهم أيا جملا من الصحراء لم يلجم)، والحمد لله أنه لا يحفظ شيئا من ذلك.

والحمد لله كذلك أنه توقف بعد فاصل طويل من الضحك وقال بعد أن شرب شفطتين متتاليتين من كأسه المترعة: إن هذه الظاهرة يا عزيزي ليست في باريس فقط، ولكنها في روما أيضا وفي برشلونة وبراغ ولندن وكولونيا وغيرها، وهذا التقليد بدأ ينتشر منذ عام (2006)، وهو تعبير من الشباب عن حبهم الذي لا انفصام عنه.

فسألته بغباء حقيقي وليس مصطنعا: ما دخل الحب بالأقفال؟!

فارتفعت قهقهاته عاليا إلى درجة أن (الغرسون) أتى لنا على وجه السرعة يعتقد أن صديقي يناديه للمزيد من الطلبات، وبعد أن صرف الغرسون سألني: هل سبق لك في عمرك أن أحببت يوما وأخلصت؟!، فقلت له: جدا، قال لي: إذن اشتر قفلا وشبكه في حديد الجسر ثم اقذف بالمفتاح في النهر ليزداد حبك ويزداد تعلقك بمن تحب.

وفي اليوم التالي اشتريت بالفعل قفلا، وكدت أقذف به مع مفتاحه في النهر لولا أن تداركته في آخر لحظة، وكدت أكرر غلطتي يوما عندما كنت طالبا أدرس في (فلورنسا)، ووقفت أمام صندوق البريد وفي يدي اليمنى (ساندويتش) وفي يدي اليسرى رسالة أريد أن أبعث بها إلى أهلي، ونظرا لغفلتي المستحكمة وإذا بي بدلا من أن أقذف بالرسالة في الصندوق قذفت بالساندويتش في داخله، وكدت أبكي من القهر، حيث إنني لم أقضم من الساندويتش سوى قضمتين، وكانت نفسي فيه.

وأبرك من أقفال الحب هذه، هي أقفال العفة التي كان يفعلها رجال الصين قديما مع نسائهم، عندما يغلق الواحد منهم القفل على الحزام ويضع المفتاح في جيبه، ولا يفتحه إلا عند الحاجة.

وفي الختام أهديكم أغنية منقرضة كنت أرددها أيام مراهقتي وهي: (أحطك في قلبي وأقفله قفلتين).

[email protected]