مالي.. دليل جديد على علتنا

TT

اشتعلت النار في بلدان جنوب الصحراء الأفريقية الكبرى، وشمالها، حيث المجال الرحب للجماعات الأصولية، وعصابات التهريب، بالإضافة للعشائر القاطنة في المنطقة، من طوارق وعرب وغيرهم ممن تكيفوا مع هذه الصحراء الشاسعة منذ القدم، وعشقوا الصحراء وعشقتهم، بحرها وبردها وألغازها، كما صور هذا العالم بشغف وغموض جذاب ابن هذه الصحراء وابن الطوارق، الروائي الليبي إبراهيم الكوني في كثير من رواياته، وعلى الأخص منها، لي شخصيا، رواية «التبر».

تحولت الصحراء بحدودها الشمالية والجنوبية إلى مرتع للفوضى والجماعات الأصولية و«القاعدة» وغير «القاعدة»، على أرضية منهكة أساسا بمطالب ثقافية وإثنية، ودول بالكاد تسد رمقها. الصحراء الكبرى منذ القدم هي الخيمة التي استظل بظلها كل الشعوب المطلة عليها أو العابرة لها، من الشمال والجنوب، لكنها الآن صارت بالنسبة لـ«المجاهدين الدوليين» فرصة سانحة للعمل والتحشيد، فهم ينشطون في كل مكان فوضوي وهش.

أما من يقود حملة إعلامية تهييجية من كتاب وخطباء التيار الأصولي، وتصوير مالي وكأنها قدس جديدة، فليس هذا إلا استهتارا وفقدان إحساس بالمسؤولية، وانغماسا أكثر في سوق المزايدات والأغلاط المكررة منذ عقود وعقود.

سكان مالي والنيجر وموريتانيا والجزائر وتونس وليبيا وبوركينا فاسو، وغيرها من دول الصحراء، ليسوا بحاجة للمجاهدين الأشاوس، الذين يتقنون حمل «الكلاشنيكوف»، والـ«آر بي جي»، ويصنعون المفخخات، ليسوا بحاجة إلى كل عدة الموت والشقاء والخواء هذه، هم بحاجة إلى التنمية والأمن وتأمين لقمة العيش، وفرص الحياة الآمنة.

فرنسا وغيرها من دول العالم، خصوصا الغربي منها، ليست في مزاج صالح وملائم للتدخل العسكري في مشارق الأرض ومغاربها، بعد درس أفغانستان والعراق، ولكن تنامي خطر القارة الأفريقية بعد احتلال الصحراء الكبرى من قبل الجماعات الجهادية، وتفشي اختطاف الأوروبيين واليابانيين وطلب الفدية من دولهم أو قتل الرهائن، ناهيك عن التحضير لكثير من الأعمال الإرهابية من هذه المواقع الفالتة، بالإضافة إلى وجود جاليات كبيرة تنتمي لبلدان هذه الصحراء يكونون جزءا من سكان بلدان أوروبا، بعض جهالهم أو متعصبيهم ينتمون عاطفيا أو عمليا للجماعات الأصولية المسلحة هذه، كل هذه المعطيات وغيرها هي التي كانت محركة للتدخل الفرنسي والأوروبي والغربي بشكل عام، بل وحتى المساندة من قبل بعض الدول العربية، أو على الأقل تفهمها لما جرى.

يراد للصحراء الكبرى أن تصبح «جنة» كبرى لكل الجماعات الجهادية، ويصبح لدينا، على مدار الأرض المعمورة، ثلاثة مراكز كبرى لكل الجماعات الجهادية، ففي شرق الأرض هناك أفغانستان والشريط الجبلي الباكستاني، وفي وسط الأرض هناك اليمن، وفي غرب الأرض هناك الصحراء الكبرى.

من هنا، فإن هذه الحملات الإعلامية من قبل بعض خطباء الأصولية وكتابها أو من قبل بعض الدائرين في فلكهم، ليست مما يؤخذ على محمل الجد في عالم الحسابات العملية والسياسية، فهذا الكلام الأجوف إلا من العواطف والتهييج، هو من قاد الشباب العربي إلى مزارع الموت في العراق وأفغانستان واليمن والصومال.. وغيرها وغيرها.

الآن صارت مالي وإقليم أزواد في الدعاية هذه منبع المجاهدين ومنطلق يوسف بن تاشفين، وتحولت إلى مغناطيس جديد للمشاعر والأحلام والدعايات الانفعالية، وسيذهب من الآن شبان من مصر وتونس وليبيا والمغرب والجزائر، بل وحتى من السعودية واليمن والخليج والأردن لـ«الجهاد» في بلاد الصحراء، ثم تنتهي الأزمة إلى فشل الدول المطلة على الصحراء هذه، ثم هناك من سيقتل من الشباب وهناك من «سيحترف» العمل العسكري والقتل والقتال، محاولا تعميم تجربة «الجهاد» في منطقة هنا وهناك، في بلده أو غير بلده.. وهكذا تدور ساقية الموت والتضليل، وليس هناك من يملك شجاعة كسر هذه الحلقة المفرغة.

ليست المشكلة الحقيقية في مالي ولا في التدخل الفرنسي ولا في جبهة «تحرير أزواد»، ولا في الطوارق ولا في العرب، هذه مشكلات قد تحل بالتفاوض أو بمرور الوقت، أو بغير ذلك من السبل، المشكلة الحقيقية هي في هذا الاستعداد والتحفز الدائم لدى الجانب المأزوم من ثقافتنا، وهو جانب سهل الاستفزاز عند أي طارئ، وفي حالة تعطش دائم للجهاد والقتال.

هذا هو جوهر المشكلة «الفكرية» والثقافية التي يربى عليها شبابنا، ورغم كارثة 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وما تلاها من خسائر كبرى للعالم المسلم، لم يستفد أحد وعادت الكرة من جديد، رغم كل ما قيل عن أن ما سمي بـ«الربيع العربي» كان مؤذنا بنهاية الخطاب المتزمت وعودة الوعي بالذات لدى الشعوب العربية والمسلمة، لكن كانت هذه مجرد أمنيات على شكل تحليلات من قبل بعض مزيفي الصحافة والثقافة في العالم العربي الذين صفقوا وهللوا للربيع العربي قبل عامين إلى نحو نصف سنة، ثم لبس كثير منهم فجأة رداء الحكمة والبصيرة محذرين من الحماسة والانفعال في الثورة! وكأنهم لم يكونوا هم أنفسهم في طليعة الهاتفين والمصفقين إلى قبل أشهر قليلة، مهاجمين كل من أبدى نقدا أو شكا في جدوى هذا الربيع!

الحق مر، والحقيقة صعبة، لكن الهلع والخوف من توجيه النقد لخطابنا التربوي والإعلامي ونفاق الجمهور هو الذي يجعلنا نقع في الهاوية كل مرة، ونحاول لملمة الجراح والآثار.

بعد مالي ستوجد مالي أخرى، وأزمة أخرى ومجاهدون آخرون، تحت أي ذريعة، المزاج هو هكذا، وفي ذهن كثير من الشباب الحنين إلى «الجهاد» والقتال، رغم مظهرهم الذي يوحي بالطمأنينة وحب الحياة، أحيانا.

المشكلة كما تنبه لها رجل عظيم رحل عن دنيانا قبل أكثر من قرن في 1905، وهو الشيخ محمد عبده، هي التربية والإصلاح الاجتماعي والتعليمي وليست في العمل السياسي وما تفرع عنه، الشيخ عبده هو الذي طلق السياسة بعد عودته من المنفى 1889م، مشروطا عليه من قبل الإنجليز، ترك العمل السياسي، ليتفرغ للتربية والإصلاح الاجتماعي والديني، وبقي من محمد عبده هذا التراث العظيم، وبقي لغيره قبض الريح من عمل سياسي مؤقت تذروه الرياح.

المشكلة عميقة وقابلة للتكرار، وليست القصة قصة علاقات عامة وإعلام توجه له الحملات وتصرف عليه الملايين من أجل تحسين الصورة، كما أطلقت مجموعة من الناشطين المسلمين الأميركيين حملة إعلانية لـ«إعادة تعريف كلمة (جهاد)، التي تم تشويهها على يد المتشددين الإسلاميين، والجماعات المعادية للإسلام». كما ذكرت قناة «سي إن إن» الأميركية، ناقلة عن نهاد عوض، المدير التنفيذي لمجلس العلاقات الأميركية الإسلامية، أن كلمة «جهاد» تعني «المقاومة من أجل هدف نبيل». وأضاف أن الحملة ستنطلق في 25 حافلة بمدينة شيكاغو، وسيتم توسيعها لاحقا لتشمل سان فرانسيسكو.

ليست هنا المشكلة، فنفس هذه الحملات ونفس هذا الشخص، نهاد عوض، ونفس هذه المؤسسات، فعلت نفس هذا الفعل، باختلاف التفاصيل، منذ هجمات 11 سبتمبر، بل حتى قبل هذا التاريخ.. المشكلة ليست في العلاقات العامة ووجود بعض «الشواذ» من أبنائنا، كما يوصفون، المشكلة يا سادة هي في «الحزام» المحيط بنواة الجماعات الجهادية، فهذه الجماعات المقاتلة ليست إلا النواة الصلبة لطبقات من القشرة الثقافية والتربوية والاجتماعية المحيطة بها.

هذا الكلام يزعج كثيرين، ويتهم من يقوله بشتى التهم ليس أقلها العمالة للعدو، ولكن هذا الشتم لا يقدم ولا يؤخر شيئا على المستوى الشخصي، والأهم أنه لا يغير من حقيقة الحالة الكارثية التي نعيشها.

مرة أخرى.. المشكلة ليست في مالي، ولا أفغانستان ولا اليمن.. المشكلة كما يقول أهل المنطق «في الأذهان وليست في الأعيان».

حاول رجال أهل بصيرة وعقل وعلم منا أن يشعلوا السراج بيننا، ولكن لم نمكنهم من هذا، وحملوا شعلتهم معهم، ومنهم الشيخ محمد عبده، الذي رحل حاملا حسرته، ورثاه شاعر النيل حافظ إبراهيم:

بكى عالم الإسلام عالم عصره

سراج الدياجي هادم الشبهات

[email protected]