العفو دواء وسياسة

TT

بعد فتح مكة تعززت أركان دولة الإسلام وأصبح هذا الفتح السلمي لها أساسا للنهج المدني للإسلام كدولة. وسارع النبي صلى الله عليه وسلم إلى انتهاج قاعدة «عفا الله عما سلف». وقف وخاطب المشركين فسألهم: «ما تظنون أني فاعل بكم؟» فأجابوا: «أخ كريم وابن أخ كريم». فقال «اذهبوا فأنتم طلقاء». وردتنا أمثلة مختلفة من ذلك. جاءته هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان لتعتذر وتستسلم، وكانت هند قد خططت لقتل حمزة بن عبد المطلب، عم الرسول، ثم مثلت بجثته وأكلت كبده ثأرا لأبيها وعمها وأخيها. فبادرها قائلا: «هنود أكالة الكبود؟» فأعطته هذا الجواب البليغ: «أنبي وحقود؟» فعفا عنها. سار عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، هذا المسار في عزل خالد بن الوليد عن قيادة الجيش لأنه قتل مالك بن نويرة بعد استسلامه. وكان من أروع هذه الأحداث الحضارية، ومما خلد في تاريخ الأدب العربي العفو عن الشاعر كعب بن زهير الذي سبق وأفحش في مهاجمة النبي إلى الحد الذي حلل قتله. توسط القوم له فوعده بالعفو. وكان ذلك الحدث الشهير يوم وقف في حضرة رسول الله وألقى قصيدته الشهيرة والمعروفة بالبردة وقال فيها:

أنبئت أن رسول الله أوعدني - والعفو عند رسول الله مأمول

وقد أتيت رسول الله معتذرا - والعذر عند رسول الله مقبول

وهزت القصيدة الرائعة مشاعر السامعين بما حدا بالنبي أن يخلع عليه برده فسميت القصيدة بالبردة وأوحت للبعض من جهابذة الشعر العربي بمحاكاتها، ومنهم البوصيري وأحمد شوقي في نهج البردة. أصبحت فكرة العفو أداة حكيمة من أدوات الحكم والجهاد المدني الإسلامي. فكثيرا ما وجد الحكام المسلمون أن العفو عن الخصم بدلا من مقاتلته يؤدي لتحويله من عدو لدود إلى حليف نصير. وهي الفكرة التي وردت في الآية الكريمة: «وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ». (سورة فصلت: 34). ولا أشك في أن الكثير ممن هاجموا النبي وعفا عنهم ساروا بكتائب المسلمين بعد أيام وفتحوا العالم تحت راية محمد.

وقد فطن ساسة العالم فيما بعد إلى حكمة هذا المبدأ، كما سأشرح في مقالة لاحقة. وكم من ثوار الأمس، كمانديلا، يفرج عنهم ويتفاوض معهم ثم يسلم إليهم الحكم بكل طيب خاطر. غير أن الأطباء أيضا اكتشفوا مزايا العفو في المعالجة الطبية. فالغضب والتعصب والعزم على الانتقام يزيد من ضغط الدم وتسارع النبض وضربات القلب وصداع الرأس وزيادة نسبة السكر والكولسترول والحموضة في المعدة. لاحظوا أن مجرد عفو الإنسان عن خصمه، ومصافحته واحتضانه وتقبيله، يعكس الآية وتتحسن كل هذه العوارض التي تؤدي أحيانا إلى الجلطة أو النوبة القلبية. وقد عرفنا جميعا عمن لقوا حتفهم وسقطوا موتى على الأرض في سورة من سورات الغضب والانتقام والعراك. العفو والسماحة دواء لك يا سيدي أرخص وأسلم من الأسبرين.