أزمة الجيش اللبناني مع محبيه الكثر!

TT

الإعراب عن حب الجيش اللبناني في ظروف عادية أمر صحي وواجب، فالجيوش الوطنية كما يتعلّم الناس منذ نعومة أظفارهم «سياج الوطن»، وليس ثمة ما هو أجل من التضحية والفداء دفاعا عن الوطن والمواطن.

والجندي الذي يلتحق بالجندية يعرف سلفا أنه قد يضطر في يوم من الأيام لاستخدام سلاحه ضد من تسول له نفسه الاعتداء على أرض بلاده، مع أنه لا يمكن أن يرضى برفع سلاحه داخل بلاده وضد أهلها، كما يحصل في بعض الدول التي تضيع قياداتها البوصلة.. فتشرع الأبواب أمام نيران الحروب الأهلية.

الجيش اللبناني مؤسسة وطنية أُسّست لكي تكون بوتقة انصهار في بلد يعيش ثقافات وولاءات عجز شعبه عن ضبطها - أو على الأقل تعريفها - منذ عام 1943، وهو تاريخ الاستقلال، بل عام 1920 عند رسم حدود الكيان اللبناني، وربما قبل ذلك. ولقد كان فؤاد شهاب، أحد أشرف قادة لبنان وأكثرهم التزاما بالوطنية والنزاهة والتعايش ودولة المؤسسات، «الأب المؤسس» لهذا الجيش.

وباستثناء فترة قصيرة أُخِذ خلالها على بعض أجهزة الجيش ميل للتدخل بالسياسة، ظل الجيش اللبناني مظلة جامعة للبنانيين حتى اندلاع حرب 1975 - 1990 التي شهدت انقسامه بالتوازي مع انقسام أرضية الوطن وأهله. وهنا يجب الإشارة إلى توزّع شهداء الجيش منذ مشاركته في حرب فلسطين وحتى اليوم على جميع المناطق، عبر مختلف الطوائف والخلفيات الحزبية والرتب العسكرية، وبذا كان في الحياة والاستشهاد عامل جمع وترابط وتراحم لا فضل داخل صفوفه للبناني على آخر.

من ناحية ثانية، كان الجيش اللبناني ويظل، على الرغم من سعيه الدؤوب لأداء واجبه التوحيدي الجامع، انعكاسا لواقع شعبه ووطنه. فهو لا يصطنع هويات ولا يبتكر ولاءات، بل ينشئ ويربي ويوجه ويوعّي بخطر العدو الخارجي، ولا يتورط في النزاع الداخلي، خاصة أنه عانى من الانقسام عندما انقسم الشعب، وتشتت ألويته وكتائبه عندما تشتت الوطن وتمزق بفعل سطوة قوى «الأمر الواقع». وبناءً عليه، فعندما تهدد الفتنة بذرّ قرنها، يصبح في صميم واجب من يحرص حقا على الجيش ووحدته العمل على إبعاده عما من شأنه هز صورته كمؤسسة تعلو عن الانقسامات. أما أن تصبح «محبة الجيش» مسألة متاجرة ومزايدة رخيصة.. فظاهرة سيئة القصد ومقلقة على مستقبل الجيش.

إن أحدا من اللبنانيين العقلاء لم يُفاجأ بتزايد الاحتقان الداخلي في لبنان نتيجة الأوضاع في سوريا. وكان كثيرون منهم يدركون منذ زمن غير قصير أن الابتزاز بتعميم الفوضى ولعب ورقة التوتر الطائفي من الخطوات المحتملة التي سيلجأ إليها لاعبون إقليميون في محاولاتهم إنقاذ النظام السوري.

كذلك كان متوقعا أن اقتراب المأساة السورية من إكمالها السنتين، حاصدة عشرات الألوف من الضحايا، ومشرِّدة مئات الألوف من النازحين، سيفاقم الأوضاع المعيشية، وأيضا السياسية، في الدول المتاخمة لسوريا. ومن الطبيعي أن الخطر الأكبر انصبّ على لبنان، حيث خلق النظام السوري طوال احتلال فعلي وهيمنة أمنية استمرا ثلاثة عقود وضعا سياسيا وفئويا غاية في الخطورة.

ومن ثم، مع تعمّد حرف مسار الانتفاضة الشعبية السورية باتجاه المواجهة الفئوية السنّية - الشيعية، غدا واضحا أن لبنان لن يبقى طويلا في مأمن من الأسوأ. وهو الذي يهيمن على قراره طرف طائفي مسلح، أثار خلال السنوات القليلة الماضية رد فعل طائفيا مضادا. وجاء تشييع عدد من عناصر «حزب الله» الذين سقطوا في «عمليات جهادية» مجهّلة المكان ليتسابق مع التقارير عن تحرك جهاديين من السنّة عبر الحدود السورية - اللبنانية، ليشير إلى أن البلد دخل بالفعل مرحلة الأسوأ.

ما حصل بالأمس في عرسال، بغض النظر عن التفاصيل، حادث مقلق، لكن أن تسارع جهات حزبية سبق لحزبها تهميش الجيش اللبناني، بل مواجهته بالسلاح، فجأة، إلى ادعاء حبها له وحرصها عليه، وفي هذا الوقت بالذات، فهذه مزايدة بشعة تستدرج الفتنة.

إن حب الجيش يتجسد خلال هذه المرحلة في حمايته والنأي به عن الفتن، لا زجّه فيها. أما تحريض هذه البيئة الطائفية أو تلك على الجيش فسيهدد تماسكه ووحدته، لأنه يصوره تابعا لهذه الفئة أو معاديا لتلك.. والخوف كل الخوف أن يكون هذا بالذات هو هدف المحرضين. وصدق من قال: «ربِّ أعنّي على أصدقائي أما أعدائي فأنا كفيل بهم».