حلب: شو السر «عجب»؟

TT

أتابع بأسى شديد وألم عميق مصحوب بشعور كبير بالعزة والافتخار ما يحدث في قلب مدينة حلب الشهباء الشامخة إزاء الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد المجرم، فهذه المدينة العريقة تدفع ثمنا باهظا مليئا بالحقد والانتقام والتشفي، لأنها «انضمت» وبقوة للثورة بعد انتظار، حيث كان يعتقد النظام وبيقين أن حلب «مضمونة»، وأن ولاءها «مؤكد» للرئيس وجماعته، وكان هذا التفكير وهذا الفهم استنتاجا خاطئا وقاصرا لوضع جد دقيق يخص حلب.

حلب كانت الشرارة الأولى التي انطلقت منها شرارة مذبحة حماه في الثمانينات الميلادية، ففيها حصلت معركة مهمة بين المعارضة السورية وبين جنود نظام الأسد الأب في إحدى الكليات العسكرية وسقط على أثرها العشرات من العسكر والضباط وجن جنون النظام، وكان الانتقام الأولي من نصيب حلب التي حرمت تماما من كل أوجه التطوير والتنمية ولم يصرف عليها أي شيء وبقي مطارها على حاله ومستشفياتها بحاجة لحلول عاجلة وجامعتها تئن.

كل ذلك يحدث لمدينة عريقة بعراقة الزمن والتاريخ ولشعب كريم وأبيّ عرف التعايش بين الأعراق والطوائف والأديان والمذاهب قبل أن تكون شعارات وأهدافا وتوجهات، حلب التي كانت قلب طريق الحرير وأنجبت للعالم فكرا وثقافة وتجارة وذوقا لا يزال مضربا للأمثال حتى اليوم. ولذلك يشعر الإنسان بحسرة بالغة وأسى شديد أن يكون عنوان الأخبار بخصوص حلب مرتبطا بـ«جماعات إرهابية» وقصف ممنهج بالطائرات والصواريخ لنظام فقد آدميته وأخلاقه وشرعيته وصوابه.

حلب سحرت زوارها بعبق تاريخها وقلعتها الشامخة وسوقها بـ«المدينة» القديمة وبطرقها وأزقتها وحاراتها ومطبخها، وما أدراك ما مطبخها الذي يتنوع بين أنواع من المشاوي والكباب لا عد ولا حصر لها ولا ينافسها سوى أصناف الحلويات الطيبة، وطربها وبنائها وحجرها وصابونها وأهلها.

كل شيء بتلك المدينة الآسرة كان يترك في زائرها بصمة استثنائية، فهي التي أنجبت مفكرين قرأوا مبكرا وحذروا من الاستبداد والطغيان، ولعل أبرزهم كان عبد الرحمن الكواكبي الذي قدم دراسات وقراءات عن الطغيان والاستبداد سابقة للعصر والأوان، وهو العالم الديني الجليل الذي كان نموذجا للعالم الوسطي الذي كانت حلب قادرة على إنجابه من أبنائها، ومنهم عبد الله سراج الدين وعبد القادر عيسى وغيرهما، ولم تكتف حلب بإنجاب هذه النوعية من الأفذاذ ولكنها قدمت لسوريا نماذج من أهم رجال سياستها مثل سعد الله الجابري ورشدي كيخيا وناظم القدسي وغيرهم بطبيعة الحال من وزراء ومسؤولين ونماذج في غاية الأهمية من تجار ورجال أعمال وأطباء ومهندسين وأدباء ومثقفين ومحامين ومحاسبين ومعلمين.

النظام ينتقم من مدينة تفضح تخلف النظام، مدينة أهلها لم تغرهم «منح» و«عطايا» بشار الأسد بتجميلات مؤقتة ومنافع لفئة محددة على أساس أن يعوض بها «جفاف» عهد أبيه على المدينة المهمة، وظهرت حلب مجددا تؤكد أهميتها فباتت مركز ثقل الصناعة السورية، وتألقت في صناعة الغذاء والدواء وباتت بوابة التصدير لتركيا ومنها لأوروبا، ولكن «الشرار» كان موجودا تحت الرماد، فحلب مدينة «حرة» وأهلها «أحرار» لم يرضوا بذل الفرنسيين يوما ولم يقبلوا استعباد الأسد أياما، ولكن الانفجار الحلبي على النظام كان مرا وقاسيا وهو الذي أصيب بالصدمة التي قصمت مصداقيته وترويجه لشائعات الولاء والوفاء الحلبي للنظام ولبشار الأسد وجماعته.. فقد سقطت الكذبة وسقطت الأقنعة، وهذا يفسر سر الوحشية والهمجية التي يتعامل بها النظام للقضاء على كل ما هو حضاري ومدني وتاريخي ومهم في حلب.. فاستهدف الرموز والأيقونات، لم يرحم ولم يترك أثرا إلا استهدفه.. جامعة ومستشفى ومخبزا وقلعة ومسجدا وسوقا ومنزلا ومدرسة، كل ذلك كان هدفا «مشروعا» للقضاء على فكرة الحضارة والمدنية التي تفضح وتكشف وحشيته وهمجيته ودمويته.

حلب هي المعركة الفاصلة للنظام، وتحرير الأحياء والمواقع الحساسة على حساب وجود الشرعية ووجود السلطة ووجود السيادة للأسد وجماعته سيكون إيذانا نهائيا برحيل نظام غير مأسوف عليه، ولكن كان من الضروري معرفة سر الكراهية الحادة من بشار الأسد وجماعته لحلب وأهلها.

حلب وسوريا وشعبها العظيم باقون، أما بشار الأسد فراحل غير مأسوف عليه.