أبو الغيط شاهدا.. ما رآه يقوله!

TT

في عام 2002 كان أمين هويدي، وزير الخارجية ورئيس المخابرات المصرية الأسبق، قد أصدر مذكرات مهمة تحت عنوان: «50 عاما من العواصف.. ما رأيته قلته».. وعلى الرغم من أن أشياء كثيرة قد استوقفتني في تلك المذكرات السياسية الشيقة، وتناولتها في حينها، فإنني لم أتوقف عند شيء فيها، بقدر ما توقفت عند الشق الثاني من العنوان الذي يقول فيه صاحبه قاصدا: ما رأيته قلته!

وإذا كان هناك من سوف يقول، إن ما استوقفني في العنوان يكاد يكون مجرد شكل، أكثر منه أي شيء آخر، فسوف أقول على الفور، إن الشكل هنا يظل جزءا لا ينفصل عن المضمون، ولذلك أعجبني جدا أن يكون هويدي صادقا مع القارئ، منذ البداية هكذا، وأن يكون صدقه على هذا النحو الذي يجعله يصارح قراء الكتاب، بأنه لن يروي لهم إلا ما رآه بعينيه، وسوف يغض البصر عما سواه.

شيء من هذا أحسسته، ثم عايشته طوال مذكرات أحمد أبو الغيط، وزير الخارجية الأسبق، والتي صدرت في القاهرة قبل أيام، تحت عنوان «شهادتي.. السياسة الخارجية المصرية 2004 - 2011».

وسوف تلحظ في هذه المذكرات الطازجة شيئين، أولهما أن صاحبها لا يضع أمام قارئها شيئا، إلا إذا كان هو كوزير طرفا مباشرا فيه، ولذلك فهو يملأ يديه تماما مما يقوله، ويقدمه في ثقة، وهو يفعل هذا عن إدراك مسبق لحقيقة راسخة، هي أن القارئ لا يحس فقط بصدق كاتبه معه، ولكنه يشم هذا الصدق من بعيد، فإن وجده أقبل على القراءة، وإن لم يصادفه انصرف!

وأما الشيء الثاني، فهو أن الوزير أبو الغيط، كان حريصا منذ أول يوم له في الوزارة، في منتصف عام 2004، على أن يظل المسؤول الأول عن ممارسة سياسة بلده الخارجية أمام الرئيس، وكانت خبرته من قبل سفيرا في أكثر من بلد قد جعلته على يقين من أن وجود وزير دولة للشؤون الخارجية - مثلا - إلى جوار وزير الخارجية، مسألة لا تنفع وقد تضر. ولهذا فإنه قاوم رغبة مبارك في هذا الاتجاه، وأفهمه بشكل غير مباشر أن وجود مثل هذا الوزير للدولة إلى جانبه، سوف يعطل العمل أكثر مما سوف يسهله، فأقلع الرئيس السابق عن الفكرة، ولم يرجع إليها مرة أخرى، وهو الأمر الذي صرف آخرين عن دس أنوفهم في هذا الميدان، لأنهم عرفوا مبكرا أن الوزير الجديد وقت تكليفه يرفض بحسم أن يكون له شريك في عمله. وكان جمال مبارك، على سبيل المثال، في مقدمة هؤلاء الآخرين الذين ابتعدوا عن طريق أبو الغيط، طوال سبع سنوات قضاها وزيرا، وإن لم يمنع هذا من محاولات بين وقت وآخر، كان مبارك الابن يجرب من خلالها أن تكون له مساحة خارجية، فكان الوزير المسؤول يحاصرها باستمرار، فلا تتجاوز حدودها.

المذكرات طويلة ومتعمقة، ومن الواضح أن صاحبها قد عكف عليها وأعطاها وقتها وأنضجها على نار هادئة، وأرادها كما يقول عنوانها، شهادة تسأله عنها أجيال مقبلة، ويسائله عنها التاريخ.

وربما لم أستشعر منطق أمين هويدي في موقف فيها، بقدر ما استشعرته حين تعرض الوزير أبو الغيط لعملية صناعة السياسة الخارجية في النظام السياسي المصري الرئاسي طوال عهود عبد الناصر والسادات ومبارك.. إنه لم يشأ أن يقول عن نفسه إنه كان صانع سياسة بلاده الخارجية وكان موجها لها، على عكس وزراء خارجية آخرين سبقوه، كان يحلو لهم أحيانا، أن يقولوا ذلك عن غير حق، وعن غير اتساق مع الواقع.

فالرئيس وحده، في مثل هذه النظم السياسية بشكل عام، وفي النظام السياسي المصري الذي أنتجته ثورة يوليو (تموز) 1952 بشكل خاص، هو المسؤول عن صنع وتوجيه السياسة الخارجية لبلاده، من خلال أدوات يظل وزير الخارجية هو الأداة الأولى بينها.

قد يختلف وزير خارجية عن آخر، وهذا طبيعي، ولكن يبقى الخلاف بين هذا الوزير للخارجية وذاك، في أسلوب كل واحد، في التعبير عن سياسة بلاده، وفي خبرته وفي طريقة عمله، وفي أدواته، وفي.. وفي.. إلى آخره، دون أن يكون بينهم أي فارق في المضمون، لأنه واحد، ولا يتغير، ما دام الرئيس قائما يصنع ويوجه.

طبعا.. ليست هذه هي الإدارة المثلى للسياسة الخارجية في بلد مثل مصر، ولأن أبو الغيط كان قد عمل مع حافظ إسماعيل، مستشار الأمن القومي في أول أيام السادات، فهو مقتنع بأن وجود مستشار من هذا النوع، إلى جوار الرئيس، ووزير خارجيته، يوفر الإدارة الأفضل للسياسة الخارجية، غير أن هذا لم يكن متاحا على مدى أعوام مبارك الذي كان بالكاد يحتفظ بمدير مكتب لشؤون المعلومات، بما جعل سياسته الخارجية تعاني، وكان أبو الغيط من ناحيته، يجاهد في سبيل تخفيف هذه المعاناة قدر إمكانه وقدر ما كان مسموحا أمامه.

وإذا كان هذا كله جميلا، فالأجمل منه، والذي لم يتطرق له الوزير أبو الغيط، أن تتوافر للسياسة الخارجية «رؤية» واضحة لدى صانعها وموجهها، بحيث تكون الدولة المصرية مدركة مقدما ماذا تريد، وكيف تحقق ما تريده، وهو أمر كان غائبا عن عقل مبارك، وعلى الرغم من ذلك هوجم وزيره مرارا على غياب ليس من صنعه، ولا كان من مسؤوليته..

وفي كل الأحوال كان يقينه أن الأهم أن يكون صادقا فيما يقوله أو يفعله، وليكن بعد ذلك ما يكون.