الفتنة الثانية

TT

التطرف بخير، بل بألف خير، وهو يعيش أزهى أيامه؛ فها هو ينتشر جغرافياً، ويظهر من الجحور، ويخرج من الكهوف، وينضم للحياة العامة، ويطلع على وسائل الإعلام، ويؤسس الأحزاب، ويترشح للمناصب، وينضم للبرلمان، ويتغنى بشعارات الحرية والعدالة والكرامة، ولكن مع كل هذا المشهد المدني الحضاري، لا يزال هناك منهم من يكفّر ويفسّق ويزندق، ويحدث الشروخ داخل المجتمع نفسه، ويذكي روح الفتنة بتبني الآراء المتشددة والمتنطعة المليئة بالشذوذ الفكري والأفق الضيق، وبالتالي أيضا استمرار ظهور هذا التيار «مسلحا»، وبأسماء مبهمة، ولكنه نفس الفكر المشؤوم.

وها هو يخرج برأسه في شمال أفريقيا؛ في تونس والجزائر وليبيا ومالي، ولا يزال حاضرا بقوة في اليمن والصومال، وغيرها من المناطق الملتهبة.

هذا الفكر وتنظيماته التابعة له كان بمثابة المغناطيس لجذب التدخل الخارجي في شؤون البلاد التي يدخل على شؤونها ويتدخل فيها، كيف لا وهو يتسبب بشكل مباشر في إيقاع المئات من القتلى المسلمين والأبرياء، وذلك بشكل مستمر وممنهج يثير الاستغراب والتعجب من غايات هذه الجماعات، وحيل تبرير هذا الشر العظيم لنفسها بشكل متواصل!

المسؤولية العظمى تقع بالأساس على المسلمين أنفسهم لمواجهة هذا الفكر وتلك الجماعات، قبل أن تكون مسؤولية دول مثل الولايات المتحدة أو فرنسا أو بريطانيا.

العالم الإسلامي لا يزال يتعامل مع هذه الجماعات بأنها «ثقافات» و«آراء»، ولكن المجتمعات الحرة تعرف أنه حتى ضمن إطارات الحرية هناك حدود يجب أن توضع لحماية هذه الحرية ممن سيعتدي عليها، وليس هناك من دليل أبلغ على هذا من جماعات النازية الجديدة التي تعاملت معها المجتمعات الغربية على أنها خطر سرطاني سيفتت السوية الاجتماعية التي تسعى لترسيتها، وبالتالي يجب أن «تجرم» هذه الجهات، ويمنع انتشار فكره، حتى وإن «سمح» لها بالتعبير عن آرائها، كما حصل مع هذه المجتمعات.

ما حصل في مالي، على سبيل المثال، مؤخرا، هو اعتداء صارخ من مجاميع خارجة (ليسوا أساسا ماليين، بل جاءوا من خارج البلاد واحتلوا مناطق فيها ليعلنوا إقامة جمهورية إسلامية لتطبق فيها الشريعة)، والأدهى أن يلقى هذا التصرف الغريب العجيب تعاطفا وتفهما من أعداد غير بسيطة في المجتمعات المسلمة التي سعت جاهدة لتبرير هذا التصرف، وتقديم الحجج والشروحات لذلك، متجاهلين ومتناسين حجم الأذى والضرر الناتج، ومدى السلبيات المهولة التي أنتجت.

التطرف وصل إلى الحكم، أو على الأقل بات، وأصبح يشارك فيه، وفي صناعة القرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بشتى أشكاله وصوره.

حجم الجرم وحجم التسلط الذي بلغته هذه الجماعات يزداد قوة، واستنطاع؛ لأن الفكر لا يزال بخير، ولا يزال هناك من يتبناه ويدافع عنه، ويبرر أن هذه الأفكار ومن قالها هي من التراث ومن رموزه، ولا بد من تقدير ذلك، واحترامه، والدفاع عنه، والاعتزاز به.

وهذا النوع من الخلط في المفاهيم هو الذي يجعل الحق الواضح والحقيقة البينة وهماً وسراباً، وهو الذي يفسر الاغتيالات والاتهامات بالتكفير والتخوين لكل من يخالف هذا الفكر، وبالتالي التعدي على الرموز الفكرية والوطنية بحجة العلمانية والتغريب، وهو تجهيز لأن يقضي عليها باسم الدين، وعلى أيدي أبناء هذا الفكر الخطير.

مالي لن تكون المحطة الأخيرة في قطار التطرف، بل مجرد وقفة على الطريق.

نحن أمام مسيرة دموية قاتلة عمرها من عمر الأحزان في هذه المنطقة، ولكن للآن لا تزال تواجه بقفازات من حرير ودانتيل، والقصة فصولها مستمرة، وستكون رخصة للتدخل في الشأن الداخلي عسكريا وفكريا، بتعديل المناهج وغيرها تعديلا «مبررا»، طالما استمر التقاعس والخذلان في القيام بالمهمة من قبل المسلمين أنفسهم وفورا.

نحن أمام أهم تحدٍّ يواجه الأمة الإسلامية منذ أيام الفتنة الكبرى التي جاءت بعد الخلافة الراشدة، وممكن أن يطلق عليها اسم «الفتنة الثانية»، وهي كارثة ثمنها باهظ ومستمر طالما استمر التعامل الخاطئ معها.

مالي لن تكون المحطة الأخيرة.. تذكروا ذلك جيدا.

[email protected]