إمكانيات الحل السلمي في سوريا قائمة ببقاء النظام

TT

* نعم

* لو نظرنا إلى سوريا بعين باردة نراها في سرير من حراب لكنه صلب، فاضت قوته تصاعديا وفاضت معارضاته بالإرهاب المفروض والمرفوض، وفقا للتصريحات الأميركية والأوروبية والعربية.

هي خط تماس دولي يعصى على الحلول الجذرية لا على الحلول السلمية المؤقتة والانتقالية. وقعت سوريا تحت أسنان منشار اليقظات الشعبية الباحثة عن صوابية التغيير المحكوم بمصالح الغير وإراداته. فقد هوى تحت المنشار بسهولة عدد من الأنظمة العربية، لكنه التوى في سوريا إلى حدود المعضلة الدولية. وذوت «ثورة» الياسمين بين ساحة تونس وغوطة سوريا الأخيرة، حيث يحل الربيع الثالث حاملا الكثير من الدماء والصراعات العربية والإقليمية بين العروبة الممكنة والعروبة المستحيلة، كما بين المذاهب الإسلامية المختلفة وبين الشرق والغرب. كان يفترض بمظاهرة شعبية أو متفجرة واحدة تقويض الدولة أو نظام الحكم فيها، لكن ألوف الأطنان من المتفجرات والضحايا في سوريا لم تتمكن من النظام، بل أورثت الخرائب والنازحين والمناخ الاقتصادي الصعب، بما يبرزها ثمرة فجة فوق ملامح طاولة دولية لإخراج سلمي تفاوضي تتقدم عناصره وتنمو بحثا عن المبادرات الحوارية السلمية وبذرتها الأولى ورقة جنيف ببنودها الستة (2012/3/21).

صحيح أن أميركا خرجت من العراق، لكن حذار البساطة. هي لم تخرج من التاريخ قطعا. فمنذ عام 1950 أطلقت أميركا الوثيقة ذات الرقم «NSC 68» الصادرة عن البنتاغون، ولبست العظمة الثنائية للحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، وقد حققت معظم الأهداف المرسومة فيها من سقوط الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو، وانخراط أوروبا الشرقية في «الناتو»، وجعل الشرق الأوسط الخط النافر في الخريطة من حيث مخزونه النفطي الأكبر في العالم وإمكانية التحكم في مصادر الطاقة وخطوط الإمداد، وحماية إسرائيل، وإقلاق إيران الغامضة في المعضلة النووية. وها نحن ننتظر من باراك أوباما في 12 فبراير (شباط) الحالي وثيقة «حال الاتحاد» التي تشي بمضمون الاستراتيجية الأميركية الجديدة التي تدفعها إلى الخلع الدبلوماسي لوسام الدولة الأحادية القابضة على القرار العالمي فوق طاولة مفاوضات دولية لا فرار منها.

تخرج أميركا إلى الشرق الأقصى الذي سيتحول فيه المحيط الهادي لعقود مقبلة إلى بحيرة ساخنة، من دون التخلي الكامل عن الشرق الأوسط. هذا يعني أن الصين باتت فعليا في مرمى الصراع المقبل، وأن اليابان وأستراليا رصيدان أميركيان قابلان للاحتواء. تدلّع أميركا الهند بأسلحة متطورة حديثة توقظ شهيتها على فكرة العظمة، وتمطّ عنقها قبالة كوريا الشمالية فتشاطئ جنوب روسيا التي خرج بها بوتين الثالث من قصر مرصع بالذهب القيصري بعدما كانت دولته عالقة بين طابقين في مصعد التاريخ، أي بين ماضيها ومستقبلها. هكذا نفهم وقوع روسيا في سوريا تحديدا كنقطة الجذب القديمة التي تستعيد بها كحدث مباشر عظمتها الدولية المفقودة، وإلا كيف نفهم بوتين الذي وضع مفتاح مجلس الأمن في جيبه وتعطل قرار التدخل الدولي العسكري في سوريا بعد خيبته من التدخل في ليبيا. يذكّر هذا التدخل الأميركيين بمقدساتهم القانونية، أعني معاهدة وستفاليا عام 1648، وهو ما دفع بهنري كيسنجر إلى الكتابة في الـ«واشنطن بوست» مقاله المعنون «التدخل في سوريا يهدد النظام العالمي».

لم تكن أميركا قبل أحداث سوريا قد قررت مدى حاجة الغرب لروسيا المسكونة بعظمتها، على الرغم من أن بوتين قد مد يده لها في الحرب على الإرهاب الدولي ومحاربة الأصوليات الإسلامية والمشاركة في تأمين الأمن في أوروبا والعالم، والبحث عن استقرار أسواق الطاقة وأسلحة الدمار الشامل. يقر الغرب باستحالة التصدي لهذا الشرق الأوسط من دون تعاون بناء من روسيا. إيجابية تحصل في الوقت الذي تدس فيه أميركا أصابعها في الساحة الحمراء بعدما أمّنت زندها وأثبتته في درعها الصاروخية في تركيا، لا لصراع فعلي مع روسيا بل لطموح غربي أميركي هو المباشرة بدمج روسيا في ما يعرف بالمجتمع الدولي من دون أي أثمان أو تنازلات كبرى، وهو طموح يشغل التحدي الأكبر في هذا القرن. ستبقى سوريا حتى انتخابات 2014 ملعبا دوليا مفتوحا على المفاوضات الطويلة والجنوح إلى الحلول السلمية والدم فوق حد السيف كما كانت في السلم، كونها عقدة السبحة الناتئة في ممر دولي تدور حوله وفيه الكثير من الأحداث ومفاوضات النظام الدولي الجديد.

وإذ تنضج إمكانيات الحل السلمي فيها كأولوية في التسويات الدولية، يترك الشرق الأوسط منبعا «للإرهاب»، وفقا للتوصيف الأميركي، ومسرحا ممسوكا للفوضى أقله حتى عام 2020، حيث بوادر تظهير المصالح الدولية الكبرى. ويستمر صعود «الإخوان المسلمين» المتعثر في تجارب الحكم الإسلامي وفق شروط غير معلنة، أولها الحفاظ على مندرجات التسويات المعقودة مع «إسرائيل»، وثانيها إزعاج إيران وسوريا من دون الانزلاق إلى حروب سنية شيعية تخربط الشرق الأوسط، وثالثها إيقاظ تجمعات «الإخوان» في 34 بقعة من الجمهوريات الروسية وآسيا الوسطى، بما يجعلهم رهنا بالقبضة الدولية المتعددة المصالح، تقض مضاجعهم جماهير الليبراليين والعرب والمسلمين الآخرين كما حصل ويحصل في مصر وتونس ومالي وبلدان الشرق الأوسط.

* أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه - الجامعة اللبنانية

[email protected]