أوروبا على مفترق الطريق

TT

كانت أشجار سكة القطار تسابقه وهو يعدو وسط أوراقها المتناثرة في كل اتجاه وقد أسقطها خريف هذه السنة الذي جاء مبكرا، وكنت مسافرا في طريقي إلى جامعة ليدز حين جلس أمامي رجل يلبس ملابس القسس وتبدو عليه ملامح الوقار والهدوء الإنجليزي التقليدي الذي بدا يفقده الإنجليز في هذه الأيام. وأخرج الرجل لفافة جبن وطماطم مصنوعة في البيت.. وقبل أن يأكل نظر إليّ نظرة مؤدبة وقال آسف إن أزعجتك رائحة الطعام فابتسمت وقلت الطعام نعمة الله ولا يمكن أن تزعجني رائحتها.. إلا إن كان مما حرم الله.. فنظر الرجل إلى كتاب بالعربية كنت أقرأ فيه ثم أردف: هل أنت مسلم؟ فقلت محاولا مداعبته كيف عرفت؟ فأحرج الرجل لأن السؤال عن الدين في هذه البلاد هو أمر شخصي جدا، وقال: آسف لم أقصد.. وقبل أن يكمل أعقبت: لا بأس عليك.. فقال بصوت هامس: قولك إن الطعام هو نعمة الله له معنى جميل موجود في ديننا لأننا قبل أن نأكل نشكر الإله على نعمته.. فسألته: لماذا تتحدث بصوت هامس؟ فقال ضاحكا وهو يتلفت: كي لا أزعج الآخرين، وأعقب بصوت هامس: أكثر الناس لا يحبون الحديث عن الإله.. والكثير من الناس في الغرب ينكرون حتى وجوده. قلت له: ما رأيك في حديث الساعة الذي يصوت عليه اليوم مجلس اللوردات؟ فقال: تقصد زواج المثليين؟ قلت: نعم.. فابتسم وقال: ماذا تتوقع.. ثم تنفس بحزن وقال: إنه عالم محزن تحولت فيه النفوس عن الله بعد أن دمرت المادية كل إحساس بالخير فأصبحت تخلط الشر به وهي تحسبه خيرا..

وأخذتني الخواطر وأنا أفكر فيما يقول.. إن أوروبا اليوم تقف على مفترق طريق خطير قد يفصلها تماما عن الدين المسيحي لأن تفسيراتها الجديدة للدين تخلط بين ما يريده الناس من شهوات وبين أصول الدين المسيحي النقية. وهذا يتجلى في قضية عدم موافقة الكنيسة على الاعتراف الرسمي بزواج المثليين بعضهم ببعض. اليوم يحاول البعض أن يربط قلة الإقبال على الكنيسة بعدم موافقتها على مثل هذا الزواج وهم يربطون قلة الإقبال على المسيحية – الذي تبين في آخر إحصاء رسمي لنفوس بريطانيا - بعدم اعتراف الكنيسة بزواج الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة. وهي كلمة إحصاء يراد بها باطل لأن انخفاض نسبة من قالوا إنهم مسيحيون في الإحصاء الجديد إلى 15 % عن الإحصاء السابق لا يعني أبدا أن سببه ما يزعمون ولا يوجد أي دليل عليه بل إن هناك عوامل أخرى كثيرة ربما أدت إلى مثل هذا الانخفاض منها قضية قسوسة النساء.

فمن اللافت للنظر ما قاله كبير أساقفة بريطانيا في خطبة تنحيه عن الكنيسة بأن سبب قلة الإقبال على المسيحية يرتبط بعدم موافقة الكنيسة على حق النساء بتولي منصب الأسقف. وهذا المنصب هو أعلى ما يتولاه رجل الدين في الكنيسة الإنجليزية بعد منصب كبير أساقفة كانتربري.

وأعتقد أن من الأسباب الحقيقية لانخفاض هذه النسبة هي أن الناس لم يعودوا يهتمون بالدين عموما. وإن عدم التدين في أوروبا يشابه تماما معنى التدين، إذ لا توجد بينهما خطوط واضحة تحدد معالمهما في مجتمع سادت فيه حرية الفرد في قضايا الاعتقاد.. فكل فرد يفسر الدين أو اللادين كما يشاء ثم يؤمن به أو لا يؤمن. وهذا أمر آخر لا بد للمسلمين أن يفهموه ويتعاملوا معه، إذ إن عدد المتدينين بمعناه العام في انحسار حتى بين المسلمين في بريطانيا. صحيح أن عدد الذين قالوا إنهم مسلمون في بريطانيا قد زاد في الإحصاء الجديد عن إحصاء 2001 إلا أن هذه الزيادة تبقى أقل من زيادة مجموع السكان في بريطانيا (3.70 % من مجموع 52 مليونا في إنجلترا وويلز عام 2001 واليوم هي 4.6 % من مجموع 62 مليونا) أي أن نسبة ازدياد المسلمين هي أقل بـ0.1 %.

وأمر آخر يستحق الملاحظة على نتائج الإحصاءات الجديدة وهو أن نسبة المسلمين الذين يعتزون بكونهم بريطانيين هي 83 % وهي أعلى من البريطانيين الذين قالوا إنهم يعتزون ببريطانيتهم ونسبتهم هي 79 %. وعلى الرغم من ولاء المسلمين هذا لبريطانيا فإن الإعلام يرتعد عندما يقال إن المسلمين في تزايد ولو بسيط، فيطبل ويزمر بأن عدد المسلمين في سنة 2020 سيكون كبيرا جدا في حين أن الحقيقة أن زيادة المسلمين بالولادة أو الهجرة هي ليست سوى زيادة تناسبية مع عدد السكان. والهدف واضح القصد منه تحجيم عدد المسلمين في بريطانيا بتحديد هجرتهم وتحديد نسلهم على الرغم من أن الحقيقة تقول إن نسبة الإنجاب بين المسلمين في العالم في تناقص؛ فحسب تقرير نشره مركز «بيو للأبحاث» في واشنطن بتاريخ 26/1/2011 عن مستقبل السكان المسلمين في العالم، فإن عدد الأطفال الذين أنجبتهم النساء المسلمات قد انخفض في سنة 2011 إلى دون 1 % بالنسبة لكل امرأة، في حين أنهن أنجبن 1.2 % في الفترة ما بين سنة 2005 وسنة 2010. أما الزيادة القليلة في عدد المسلمين البريطانيين فإنها لم تأت من الإنجاب بل جاءت من اعتناق الناس للإسلام حيث يلاحظ أن عدد المسلمين الجدد في بريطانيا في سنة 2011 قد وصل إلى 60 ألف ونسبة النساء بينهم هي 66 %.

والخلاصة، فإننا كمسلمين لا بد لنا من أن نتعلم كيف ننقد أنفسنا كما تفعل الأمم الأخرى، فننظر إلى أخطائنا ونعترف بها كي نصححها.. وهناك أمر مهم يجب التأكيد عليه وهو أن على المسلمين واجبا في محاولة فهم أسباب عداء البعض للإسلام ومحاولة للتقليل منها أو إزالتها. فالمسلمون في كثير من الأحيان لا يقدمون حضارتهم بما يتناسب مع تفهمها وتفاعلها مع الحضارات المختلفة لأن الإسلام يقبل الكثير من الأعراف المحلية التي لا تضاد روحه ولا تعاند مقاصده خاصة في ما يتعلق في اللباس وفي العلاقة مع الآخرين كالتبسم في وجوههم بدلا من التكشير والوجه العابس، فالوجه هو أول ما تراه العين من الفرد والكثير منا لا يزال يعيش في قريته وفي ريف بلاده على الرغم من أنه يعيش في أوروبا..!

* أستاذ في جامعة ويلز البريطانية