حوار الأديان.. يتحول في سوريا إلى حوار طرشان

TT

تابعت صباح أول من أمس باهتمام الكلمات التي ألقيت خلال حفل تنصيب البطريرك يوحنا العاشر اليازجي، البطريرك الجديد لأنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، وخرجت من المتابعة السمعية، وأيضا مشاهدة بعض أبرز الحاضرين في الصفوف الأمامية، بكثير من التشاؤم حيال مستقبل المشرق العربي أولا، وحوار الأديان ثانيا.

بالنسبة للكلمات التي ألقيت، لا بد لي من الإقرار بأنها في معظمها جاءت إيجابية وتتفهم المناخ العام المحيط بسوريا والمنطقة، غير أن كلمتين اثنتين لفتتا انتباهي؛ الأولى بسبب ما أغفلته، والثانية بسبب ما تضمنته.

كلمة الفاتيكان التي شدّدت على وحدة المسيحيين وعلى تأكيد البابا بنديكتوس السادس عشر - قبل يوم من استقالته - في رسالته لليازجي على «معنى وأهمية الوجود المسيحي في الشرق وأهمية العمل على عودة المسيحية في الشرق».. لم تتطرق إلى أمر تعايشهم مع المسلمين. وهذا في منطقة من العالم يشكل المسلمون فيها نسبة تزيد على 90% من سكانها، وتعيش راهنا ما يسمى «صحوة» إسلامية. وكان من أبرز المؤشرات على ذلك وجود سفير الجمهورية الإسلامية الإيرانية لدى سوريا في الصف الأول من الحضور على بعد أمتار قليلة من السفير البابوي.

أما كلمة البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي فكانت، كعادة قائلها، صريحة ومباشرة في توجّهها السياسي؛ إذ قال الراعي: «كل ما يُقال ويطلب من أجل ما يسمى إصلاحات وحقوق إنسان وديمقراطيات.. هذه كلها لا تساوي دم إنسان واحد بريء يراق». ومع أن أحدا لا يجادل في هذا، فإن الإشكالية تكمن في تحميل البطريرك المسؤولية في إراقة الدم للمنادين بالإصلاحات وحقوق الإنسان والديمقراطية.. وليس للمتشبثين بكرسي الحكم بعد أربعة عقود من الزمن، وحتما ليس للدولة البوليسية التي بنوها وأهلهم من قبلهم، والتي في كنفها ترعرع اليأس وتحت أنظارها وأسماعها - وربما بجهودها أيضا - نما التطرف الطائفي.

في أي وضع آخر كان بإمكان المراقب الطامح إلى تعايش إنساني حقيقي بين الأديان والطوائف والمذاهب والأعراق، يظلله التسامح ويقوم على احترام الاختلاف، السكوت عما سبقت الإشارة إليه. كان مقبولا تفهم المناسبة، فهي كنسية دينية أولا وأخيرا.. ولا حاجة، بالتالي، لتحويلها إلى منبر للطرح السياسي، لكن وضع سوريا اليوم بعيد عن أن يكون طبيعيا، ومثله حال المنطقة.

نحن اليوم بصدد «إسلام سياسي» تتنازعه مشاعر المرارة والغضب.. إلى جانب مظاهر العنفوان والطمع. في تونس وكذلك في مصر ينبغي الإقرار بأن الصورة التي تعرضها بعض الفصائل الإسلامية بعدما بلغت السلطة صورة مقلقة ليس للأقليات فحسب؛ بل هي مقلقة أيضا لمستقبل التنمية والاستثمار في جيل الشباب والانفتاح على العالم.

إن الانكفاء والتراجع كارثة على المسلمين قبل غيرهم، وللخائفين من التشدّد الإسلامي - السني تحديدا - في ظل سعي البعض إلى الاستئثار بالسلطة وإقصاء الآخرين.. أقول ليست الأقليات الدينية والطائفية وحدها تخاف هذا التشدد؛ بل إن الخوف يشعر به ملايين المسلمين مثلهم مثل غيرهم. ولا أدل على ذلك من المظاهرات التي شهدتها وتشهدها شوارع المدن المصرية والتونسية.

وبناءً عليه، أعتقد أن على الحكماء في الدول حيث تشكل الأقليات الدينية والطائفية والعرقية نسبا لا بأس بها من سكانها، كحال مصر وسوريا ولبنان والأردن والعراق، السعي إلى تشجيع تيار الاعتدال والانفتاح داخل الأغلبية المسلمة - السنية بالذات - بدلا من بناء تحالفات ضدها. من مصلحة الأقليات إيجاد القواسم المشتركة مع الأغلبيات السنية، لا التآمر... والاستقواء على شركاء الوطن بقوى الخارج.

ما هو مؤلم اليوم أن الخطر المُحدق بالتعايش بين المكونات الدينية والطائفية في دول مثل لبنان وسوريا والعراق، غدا أكبر من مجرد جموح ضابط متقاعد يحلم بالرئاسة وهو على أعتاب الثمانين، أو رجل إكليروس يمضي جل وقته في ممارسة السياسة، أو مافيا طائفية دموية تحاضر صباحَ مساء بالتقدمية والعلمانية والممانعة والثورية، أو نظام مذهبي حتى النخاع نصبه احتلال أجنبي غربي وتبقيه في السلطة تبعية أجنبية شرقية. بل ما هو مؤلم أكثر وجود أكذوبة كبرى.. أكذوبة «حماية» المنطقة من نوع واحد من أنواع التطرف الديني، مع الاستغلال الفعلي لظاهرة التطرف على الرغم من العلم المسبق بأن التطرف يولد دائما تطرفا مضادا.

ثمة مقولة بريطانية شهيرة هي: «الأفعال أعلى صوتا من الكلمات»، وهي تصدق تماما على إعلان إسرائيل أخيرا عن تحضيرها لبناء جدار وإنشاء منطقة عازلة في هضبة الجولان السورية المحتلة «تحسبا لسقوط النظام في دمشق».

لنتأمل أولا السبب الذي جعل إسرائيل تتخوف من جبهة الجولان لأول مرة منذ 1973.. أي 40 سنة. فطوال 40 سنة كان الاحتلال الإسرائيلي مطمئنا إلى أمن مستوطناته في الجولان، ولكن فجأة عندما هددت الانتفاضة الشعبية بقاء نظام «الممانعة والصمود والتصدي» انشغل بال بنيامين نتنياهو ومن لفَّ لفَّه.

تصوروا ذلك الأمر العجيب.. نحن إزاء خشية إسرائيلية معلنة وذات مفاعيل عملية من انتفاضة شعبية يريد النظام السوري إقناعنا بأنها تخريبية وإرهابية «تنفذ أجندات العدو» بأموال موالية للغرب «الداعم طبعا لإسرائيل»... بهدف «إسقاط أعداء إسرائيل»!

وهنا نصل إلى مَن يظهران لنا عدوين لدودين يسحب كل منهما منطقة الشرق الأوسط باتجاهه، والقصد هنا إسرائيل وإيران.

موسميا، هناك ابتزاز إسرائيلي حتى لواشنطن بشن ضربة استباقية منفردة للمرافق النووية الإيرانية، ثم على مستوى آخر، يقصف الطيران الإسرائيلي قرب الحدود السورية - الإسرائيلية ما قيل إنها قوافل تحمل شحنات أسلحة لـ«حزب الله». وفي المقابل، لا دليل على تخفيف طهران لهجتها تجاه تل أبيب؛ لا عمليا على صعيد التسلح وتحرير فلسطين، ولا لفظيا على صعيد إنكار «المحرقة النازية».. بل العكس صحيح.

مع كل هذا، لا تبدو تل أبيب متحمسة لتغيير نظام تقول إنه جزء من استراتيجية طهران في المنطقة، بل هي قلقة من سقوطه. ومن تل أبيب امتدت عدوى «القلق» إلى البيت الأبيض؛ حيث رفض الرئيس الأميركي باراك أوباما طلبات بعض كبار معاونيه بتزويد المعارضة السورية بالسلاح بحجة أن «تسليح المعارضة السورية يشكل خطرا على إسرائيل»!

حقيقة أخرى، ولو على مستوى أدنى بكثير، تؤشر لتلاقي المصالح بين طهران من جانب؛ وتل أبيب ومعها بعض القوى والمرجعيات الغربية من جانب ثانٍ، وتتمثل في تحالف تيار ميشال عون و«حزب الله» في لبنان.

«حزب الله» تنظيم ديني يتبع علنا الولي الفقيه، والتيار العوني تيار مسيحي جدا دأبه تخويف الشارع المسيحي من التطرف الإسلامي. ألا يرى الجنرال عون يا ترى أن «حزب الله» حزب إسلامي؟ أو أن قيادات الحزب متدينة؟ أو أن الشيعة مسلمون؟

ثم ألا يشعر «حزب الله» بنبرة التحريض «العونية» على المسلمين السنة؟ ألا يجد أن التحريض على السنة أوجد قيادات سنية أكثر تطرفا من أخصام عون و«الحزب» في الشارع السني.. أم إن هذا هو القصد بالذات، أولا لشق صفوف السنة، وثانيا لتسهيل مهمة رمي السنة بتهمة التطرف؟

ما يحدث اليوم في جبهات سوريا؛ في مدنها وقراها، وما يحدث في مناطق عدة من لبنان بينها بلدة عرسال المحاصَرة، ومواقف بعض القيادات المسيحية في المنطقة العربية وخارجها من علاقة المسيحيين بالإسلام والمسلمين، يدعو للتشاؤم، وأيضا يدعو للتفكير بعمق أكبر حول ما إذا كان ثمة عداء حقيقي أم تقاطع مصالح بين مؤسستي السلطة في إيران وإسرائيل.