سورية: لعب عفلق لعبة الحوراني في الرهان على العسكر

TT

* ولدت «اللجنة العسكرية» البعثية في القاهرة دون علم المخابرات الناصرية بها.

استقال البعثيون من نظام جمال عبد الناصر. لكنهم لم يشاركوا في انقلاب ضباط دمشق (الضباط الشوام) الذي فصم الوحدة بين مصر وسورية في سبتمبر عام 1961.

غير ان الحزب الذي اعاد تنظيم نفسه في عهد «الانفصال» اتخذ قرارا سريا خطيرا لم يقل كارثية عن كارثية القرارات الناصرية. فقد قرر الحزب وهكذا وبكل بساطة قلب نظام الحكم والاستيلاء على السلطة بالقوة في سورية.

قلت مرارا وفي مناسبات مختلفة هنا في «الشرق الأوسط» ان حزب البعث نشأ نشأة ديمقراطية على ايدي عفلق والبيطار ونخبة المثقفين القوميين المحيطين بهما. وتمثلت هذه الديمقراطية في الحوار بينهم وبين جيل الاربعينات والخمسينات من طلبتهم في المدارس الثانوية والجامعة السورية.

لكن ديمقراطية الحوار هذه كانت تشوبها شوائب. فلم تكن الانتلجنسيا البعثية التي تشكل اهم شرائح الجيل القومي الثاني مؤمنة كلياً بالديمقراطية كنظام حكم. فلم تكن الديمقراطية عندها رديفة على مستوى الرتبة ذاته مع الوحدة العربية في العقيدة، ثم تأخرت كثيرا وضاعت آثارها مع تبني الحزب الاشتراكي، فقد باتت العدالة الاجتماعية تتقدم لدى مفكري البعث وساسته على العدالة السياسية، كما هي الحال في النظام الماركسي. وبمعنى آخر باتت الحريات الشعبية الجماعية تتقدم على الحريات السياسية الفردية في ديمقراطية النظام الرأسمالي الغربي.

وكان تخلف الوعي الديمقراطي لدى الانتلجنسيا البعثية والناصرية يشكل مأخذاً كبيرا على الجيل القومي الثاني الذي بدأ يزاحم بشدة آنذاك الجيل القومي الاول (جيل مردم والشهبندر والقوتلي) الذي قاد النضال ضد الاستعمارين التركي والاوروبي. والغريب ان الجيل القديم كان اكثر ايمانا بالديمقراطية والتزاما بها من جيل الثلاثينات والاربعينات (جيل الحوراني وعفلق والبيطار) الاكثر ثقافة.

ولا اجد تفسيرا لديَّ لهذا التناقض العجيب بين الجيلين سوى ان الجيل القومي الاول على مقاومته للاستعمار الاوروبي كان معجبا ومقلدا له في ديمقراطيته البورجوازية. بل اقول انه اذا كانت للاستعمار حسنة واحدة، فهي انه خلف وراءه بذرة الديمقراطية التي سرعان ما هبت عليها ريح صَرٌّ عاتية قادمة مع الجيل القومي الثاني الذي كان اكثر اعجابا بالتجربة الاشتراكية الماركسية في العالم الشيوعي التي ألغت السياسة وألغت معها الحرية.

لم يكن اكرم الحوراني صاحب القرار التاريخي الخطير للبعث في قلب نظام الحكم بالقوة في سورية ثم في العراق. كان صاحب القرار ميشيل عفلق المثقف القومي والمؤسس التنظيمي لحزب البعث! فقد رفض عفلق صراحة توزير البَعْثِيَّين عبد الله عبد الدائم وعبد الحليم ندور في وزارة بشير العظمة المهادنة لعبد الناصر، وطالب بتسليم البعث الحكم، واستند رفضه ومطالبته الى القرارات والتوصيات الخطيرة للحزب في مؤتمره القومي الخامس المنعقد في عام 1962: قلب نظام الحكم، إعادة تنظيم الحزب على اساس انه الحزب القائد، تبني وحدة اتحادية مع مصر عبد الناصر. كان القراران الأولان جادين، وكان القرار الثالث نظرياً لاستحالة الوحدة مع الناصرية.

لقد فتح الحوراني شهية مثقفي البعث كعفلق والبيطار وغيرهما على لعب اللعبة المحرمة، وذلك منذ رهانه على العسكر وعلاقته الجيدة مع الضباط الانقلابيين المخضرمين، ثم بدفعه اجيالاً جديدة من شباب الريف ومعظمهم من ابناء الاقليات الفقيرة الى الكليات العسكرية في الخمسينات بعد اندماج حزبه الاشتراكي مع حزب البعث القومي.

وأقول ان قرار عفلق بقلب نظام الحكم بالقوة في سورية كان قرارا كارثيا وخطيرا، لأني اؤمن بأن المهمة السياسية الاولى للمثقف العربي في تعميق الايمان لدى الشعب بالحرية السياسية. وليس عيباً او انبهاراً بالديمقراطية الغربية القول ان الحرية السياسية لدى المثقف الغربي هي قضية حياة او موت، وهي ايضا كذلك لدى المجتمعات والشعوب الغربية.

من هنا ومن هذا الايمان الشعبي والسياسي والحزبي العميق بالديمقراطية، فالنظام الغربي ليس بحاجة الى ان يحيط مقارّ الرئاسة بالدبابات او ميليشيات عسكرية لحماية النظام من دبابات انقلابية تقتحم العاصمة في ليل بهيم.

واذا كان رهان الحوراني على مؤسسة عسكرية بكاملها، فقد كان رهان عفلق اشد خطرا، كان رهانا ضيقا جدا، كان رهانا على افراد في لجنة عسكرية سرية. كانت «اللجنة العسكرية» التي تبناها المثقف القومي مؤلفة من خمسة ضباط شباب: محمد عمران، صلاح جديد، حافظ الأسد، عبد الكريم الجندي، احمد المير علي.

الطريف في هذه اللجنة الحزبية انها تشكلت في القاهرة دون خوف من اجهزة ناصر المخابراتية، وذلك بعد خلاف ناصر مع القادة التاريخيين للبعث وانسحابهم من نظامه. وهكذا حمل الرحم الناصري دون ان يدري البذرة البعثية التي ستغير وجه سورية منذ عقد الستينات الى الآن.

اعود الى اللغة الطائفية مضطرا لمزيد من التفسير والايضاح، فأقول ان عفلق وقع في المطب ذاته الذي نصبه الحوراني لنفسه من قبله. فقد كانت «اللجنة العسكرية» التي تبناها مؤلفة فحسب من ضباط الطوائف الاكثر فقراً وحرماناً ونقمة على نظام ناصر الذي حل الحزب واختلف مع زعمائه وسرح او نقل الى القاهرة ضباطه، ثم على نظام الديمقراطية البرجوازية والاقطاعية الذي قام في سورية بعد سقوط الوحدة، وأراد الغاء المكاسب الاجتماعية التي تحققت خلالها وفي مقدمتها توزيع اراضي الاقطاعيين السنة على الفلاحين العلويين والاسماعيليين في وسط سورية.

كان اعضاء اللجنة الثلاثة الاوائل ينتمون الى الطائفة العلوية، وكان العضوان الرابع والخامس ينتميان الى الطائفة الاسماعيلية. وبعد اربعين عاما على تشكيل هذه اللجنة لم يبق من اعضائها على قيد الحياة سوى احمد المير علي. ولعل الفضل في ذلك يعود الى هرب هذا الجنرال الخجول ذي الأدب والتهذيب الجم على ظهر دابة من جبهة الجولان التي اصبح القائد الميداني لها خلال حرب يونيو الكارثية في عام 1967.

لا شك ان حافظ الأسد كان افضل وأسعد حظاً من سائر اعضاء اللجنة. فقد مات صلاح جديد محزوناً مريضاً وراء قضبان سجن استمر 23 سنة. واغتالت فتاة مجهولة (اللواء) المتقاعد محمد عمران برصاص مسدسها عندما فتح لها باب منزله في طرابلس بلبنان في عام 1972.

اما عبد الكريم الجندي فما زال مقتله في عام 1970 غامضا ولغزا الى الآن. قيل انه اغتيل وقيل انه انتحر وهو متربع على كرسي مدير المخابرات في نظام صلاح جديد. ولم يجد هذا الجلاد الذي كان من أَعْتَى الجلادين وحشية وسادية في فن التعذيب، احدا يرثيه سوى حزب خالد بكداش. فلم يستح الحزب الشيوعي السوري من رثاء مدير المخابرات في بيان رسمي يحمل توقيع قائده التاريخي! وانتقى «القائد المؤسس» دون سائر اعضاء اللجنة بالذات صلاح جديد ليؤثره بعطفه وحنانه ورعايته وأبوته الروحية. وكان يشير اليه امام «الرفاق» من قادة الحزب واعضائه بانه «الابن الروحي» له. اما صلاح البيطار فقد راهن على «ابن» آخر، راهن على محمد عمران الأقرب اليه بأفكاره التي باتت وسطية مهادنة لعبد الناصر تارة وللطبقة التجارية تارة.

ولم يكن كل ما في صلاح جديد يثير قلق وهواجس «القائد المؤسس». فقد كان هذا الضابط المسرح الوسيم والمتقشف يجيد الجلوس بصمت التلميذ وتواضع الابن في حضرة الأب والمعلم. لكنه كان صاحب الدور الاكبر في وصول حزب البعث الى السلطة.

وفن الوصول الى السلطة يختلف تماما عن فن ادارة السياسة والامساك بالحكم والقيادة. لقد عرف صلاح جديد كيف يضرب ويبدد كل القوى السياسية والعسكرية التي وقفت في وجه قرار عفلق بالاستيلاء على الحكم في سورية، بل عرف صلاح جديد كيف يضرب بعد ذلك نظام معلمه وأبيه الروحي وينفيه.

الشيء الوحيد الذي كان ينقص دهاء صلاح جديد هو دهاء حافظ الاسد كرجل دولة وحكم وبقاء واستمرار. تعب صلاح جديد اربع سنين في شق طريقه الى الحكم، وتعب وشقي اربع سنين اخرى في البقاء فيه، وتعب وشقي نحو ربع قرن وهو يعذب نفسه في موت بطيء في سجن رفض ان يخرج منه حياً! وكان سقوط صلاح جديد هينا لينا، فلم يحتج حافظ الأسد الى دبابات لقلبه. كان كافياً ارسال دوريات الشرطة والمخابرات العسكرية للملمة صلاح جديد وأركان نظامه وحزبه من منازلهم ومقارهم فقد كانوا قد فقدوا كل تعاطف شعبي معهم.