السيرك القومي العربي

TT

قالوا قديما إنك تستطيع معرفة ثقافة وطباع وشخصيات الشعوب من أسلوب قيادتها للسيارات في الطرقات، وهي ملاحظة مهمة وبها قدر لا بأس به من الحقيقة والوجاهة ولا شك. ولكنني شخصيا أستطيع أن أضيف مشهدا آخر من الممكن من خلاله «تحليل» شخصيات الشعوب، وذلك عبر أسلوب سفرهم الجوي.

منذ أيام كنت على متن إحدى الطائرات المغادرة من السعودية إلى بلد عربي، وكانت الرحلة تغادر من مطار جدة، والرحلة كانت تعج بالزوار والمعتمرين العائدين إلى بلادهم على متن الناقل الوطني الخطوط السعودية، وكنت من الذين صعدوا مبكرا للطائرة، فكانت فرصة أن أشاهد وأراقب - مضطرا - الركاب من مختلف الجنسيات العربية وهم يصعدون للطائرة ويأخذون أماكنهم.

فكان الفوج الأول من نصيب الركاب المصريين الذين أقنعوا أنفسهم أنهم يحملون حقائب يدوية بينما هي في الواقع أقرب «لحاويات بحرية» حملت على الظهور، والراكب الذي يحملها يرتطم بوجوه الركاب وبلا اعتذار، حتى لا يلفت الأنظار، ثم يحاول جاهدا «حشو» الحقيبة العملاقة في الرف العلوي للطائرة بالدفع والقوة والهمة، وطبعا يضطر بعدها لقبول ترجي الركاب والمضيفين بإدخالها مع الحقائب المشحونة وهو يستجدي أن يجدوا لها «مكانا» لتكون معه.

وبعدها أشاهد الراكب الكويتي وهو ينظر ذات اليمين وذات اليسار وسبحته العملاقة «تلف» ذات اليمين وذات اليسار تكاد تخرق عيون الركاب، وهو يقف ليقرر فتح حقيبته وسط الممر لإخراج العطر ليتطيب، ويعطل كل من ينتظر خلفه وسط بكاء الأطفال وعويل النساء المنتظرين.

وهناك العائلة السعودية التي بدأت في تغيير مقاعدها ومقاعد من جلس بجوارها في مشاهد أشبه بلعبة الكراسي الموسيقية، وهي مسألة لا يمكن أن تقدم على عملها إذا ما كانت مسافرة على ناقلات جوية أخرى.

وهناك الراكب اللبناني الذي أحضر معه كيسا مليئا بالهدايا، وأصر على أن يخرجها كل خمس دقائق ليظهرها على الملأ في استعراض عن قدرته الشرائية، وأيضا في استعراض لمعرفته وفهمه بالعلامات التجارية العالمية.

وهناك الأسرة السورية المشغولة بالحديث عن الأولاد وعن الطبخ، وإذا كانوا نسوا شيئا أم أحضروا كل شيء، ويقومون بمراجعة محتويات حقائب اليد للتأكد والاتصال بقريب لهم خمس عشرة مرة، مكررين نفس السؤال ولكن بصورة مختلفة، وكأنهم يختبرونه بشكل أو بآخر.

وهناك الراكب الفلسطيني الذي حصل على كرسي «مكسور» فحاول أن يشرح للمضيف اعتراضه، ولكن تفهم ذلك بأن ذلك يحدث له «دائما»؛ لأن العالم متآمر «علينا» منذ زمن بعيد.

الواقع هذا «السيرك» الذي عشت لحظاته كان عنوانا واضحا ومركزا للكثير من المشاكل التي نعاني منها في العالم العربي اليوم.

هناك قدر كبير من الإهمال تولد وترسخ من الأنانية المفرطة والتفكير بالذات (أنا ومن بعدي الطوفان)، وعدم وجود ذرة تقدير لمطالب ولا لمشاعر الآخرين أبدا، وهذا طبعا ينعكس على التعامل والتفهم والتواصل مع الجميع، وهو يولد شعورا بالتعالي تارة، وبالإنكار والتذمر والاحتقار تارة أخرى، مما ينتج عنه كره وبغض منتظران. فكل شعارات الأخوة والتعاون والمحبة والتضافر هي فقط هكذا: مجرد شعارات صماء لا معنى لها ولا طائل من ورائها طالما لم تنفذ عمليا، وهي المسألة التي تؤكدها شعارات «القومية العربية» التي كانت تستخدم لإلهاب مشاعر الناس، بينما تقمع الأنظمة المنادية بهذه الشعارات شعوبها، وتحتل جيرانها في مشاهد هي أقرب للمأساة الإغريقية.

وها هي نفس المشاهد تتكرر اليوم في زيارات وفود «ناصرية» من مصر إلى سوريا لمقابلة بشار الأسد، وإعلان التأييد الكبير له، وتلا ذلك وفد من مهنيي الأردن للدفاع عن «أسد العروبة»، في مشاهد تذكرنا بذات الأسلوب المقزز حينما ذهبت وفود «قومجية» لتعلن تأييدها لصدام حسين «المحتل» لدولة عربية أخرى، وها هم اليوم يؤيدون الأسد وهو يبيد شعبه.

السيرك القومي العربي إذا لم يكن مبنيا على نصرة الحق والوقوف إلى جانب المظلوم، سيظل دوما مسخة ومسخرة غير قابلة للتصديق، سرعان ما تنكشف وتفضح.. وهذا الذي يحصل كل مرة.

[email protected]