احذر أن تحترق أناملك بالجريدة

TT

الإمساك بجريدة عربية اليوم محفوف بالكثير من المخاطر، فسرعان ما تحترق أناملك بأخبار الاقتتال والتفجيرات والاغتيالات والجرائم الكبرى ضد الإنسانية والإبادة الجماعية والنيران المشتعلة، سواء في العراق أو سوريا أو مصر أو تونس وليبيا واليمن، حيث خشبة العالم العربي تصطرع بالكثير من الخلافات والنزاعات الطائفية والعرقية والمذهبية والدينية، وحيث الصراع على أشده بين التيارات الإسلامية الأصولية وبين التيارات الليبرالية، وحيث السيف أصدق أنباء من الكتب، وحيث النمط القبلي العشائري والسلطوي الأبوي الذي يسم النسق الثقافي العربي قد يجعل الثأر والتعصب والاستبداد سيد الموقف، وحيث خيوط اللعبة محكمة الإمساك بيد الساحر الكبير، طبعا ليس ساحر الروائي باولو كويلو الذي يقودنا اتجاه الواحات والكنوز، بل ساحر أميركي - إسرائيلي يمضي بنا إلى مشهد قيامي يبدو فيه جحيم أبي العلاء روضة من رياض الجنة، بالحفاظ على ملامح النظام القديم، وإن بأسماء جديدة خوفا على نفسه من ديمقراطية قد تهدد كيانه، كما أكد المفكر الأميركي نعوم تشومسكي، وليلج العرب عالما أكثر بربرية من العهود السابقة، حيث تبدو صورة العالم العربي غائمة وملبدة بغبار الآيديولوجيات والشعارات المزيفة والخطابات الشعبوية المدغدغة للمشاعر والعنف الأعمى.

فالانتقال من الديكتاتورية المطلقة إلى الحرية المطلقة في غياب تهج أولي لأبجديات الديمقراطية والحرية والعدالة لن يسعف في تحقيق هذا التغيير الديمقراطي المنشود، كما أن إسقاط الديكتاتور ليس كافيا، بل من الواجب إسقاط نظام متشابك فاسد يشترك فيه الكل، نظام لا يؤمن بالتعددية الديمقراطية وتداول السلطة ولا يؤمن بقيم الدولة الحديثة، نظام تتأجج فيه قيم الانتهازية والولاء والمصلحة الشخصية، ومن الضروري رأب ذلك الصدع الفاغر فاه بين قيم الديمقراطية والحرية والعدالة المنشودة وبين أرضية اجتماعية مهزوزة مفعمة بقيم التخلف والفقر والجهل والبطالة والاتكالية والنكوص الحضاري..، فمن السهل أن نكيل وابل الاتهامات لأجندة خارجية وقوى همها التشتيت وزرع بذور التفرقة وتدمير هويتنا، فهي واقع لا يمارى فيه، لكن لا بد أن نستبطن دواخلنا أولا والنظر في مرآة الذات التي تمور بكل أنواع الفساد والتخلف.. ونتساءل: ما الذي جعلنا كذات هشة فريسة سائغة لمؤامرات خارجية؟

فليس كافيا أن نلفظ الحكام المستبدين من قصورهم الرئاسية، بل يجب أن نلفظ كل تلك الأجنة الفكرية المشوهة التي ظللنا نحتفظ بها ولفترة طويلة في أحشائنا، وإعادة النظر في منظومة القيم المترهلة التي توارثناها، وإن تم ذلك بعملية قيصرية في غاية الخطورة، فالأهم أن نتخلص من كل مكبوتاتنا السياسية والثقافية والاجتماعية، ونمارس وبكل جرأة عملية تطهير وفضح علني، سواء كان إعلاميا أو سياسيا أو ثقافيا لكل عيوبنا وندوبنا، وجعلها عرضة للشمس حتى تندمل وتنمحي، ولا داعي للتسرع في أكل ثمار الثورات غير الناضجة، والانتظار زمنا طويلا حتى تينع وتتوهج بشمس الشفافية والوضوح التي لطالما أطربنا بها الساسة في خطاباتهم المنبرية الجوفاء.

فالشعب العربي بعد أنهار الدماء التي جرت في ساحاته، ليس في حاجة إلى بدائل ظلامية مهزوزة «تكفيرية» فجة تعمق من حدة أزماته وتستغل رزاياه وغصصه لأهدافها الآيديولوجية المحضة، وتزج به في سجن اللاأمان والذعر، بل إلى بدائل سياسية وثقافية واجتماعية صلدة، تعزز قدرته على مواجهة التحديات الكبرى، و«الجهاد» الذي يجب أن نخوضه هو جهاد ضد قيم ظلامية غوغائية تمسك بقشور الدين وتهمل عمقه الإنساني من تسامح ومساواة وعدالة وإيمان وخير وعمل، وتعيد الاعتبار للإنسان في أبهى تجلياته، وإن تساقطت قيمنا الثورية النبيلة لفترة وجيزة من أشجار الثورات وعرتها، فلا بد أن تكسوها من جديد بكل نضارة الربيع، فالأمر يحتاج طبعا لزمن طويل من البناء والترصيص والحوار والوحدة والمقاومة والتنصل بهدوء من جبة الغالب المهيمن حسب الرؤية الخلدونية.

قد يبدو الوقت سابقا لأوانه لنعي الثورات أو الإقرار بفشلها، بل الوقت سانح لتصحيح المسار وفتح حوار بين النخب الليبرالية والنخب الإسلامية بشكل يضمن التعددية واحترام رأي الآخر وبناء المشروع الديمقراطي الحداثي.

كما أنه من الضروري تغيير سياستنا ورؤيتنا للأمور التي من الواجب أن تكون أكثر عقلانية وأكثر تأثيرا في السياسة العالمية وأكثر إنتاجية، وتغيير الخطاب السياسي العربي كي يغدو أكثر منطقية وعقلانية بعيدا عن الخطابات الغرائزية المدغدغة للمشاعر والمؤججة للنعرات العرقية والطائفية التي عمل على إزاحتها بثوراته، خطاب أكثر إبداعية وابتكارا وسعيا للتغيير والعدالة والديمقراطية والتسامح، فالثورات هدمت وجرت وراءها الكثير من الضحايا والأنقاض فقط كي تبني من جديد وليس من أجل المزيد من الهدم.

* كاتبة مغربية