بعد الربيع العربي.. البحث عن قواسم اقتصادية مشتركة

TT

إذا كانت الصحوة التي شهدتها البلدان العربية في الآونة الأخيرة تطالب بمزيد من فرص العمل والعدالة، فمن المرجح ألا تكون الإصلاحات السياسية وحدها كافية من دون إصلاحات اقتصادية. لقد خلقت الضغوط الديموغرافية الكامنة في جميع أنحاء العالم العربي وما تخلف عنها من بطالة شديدة في أوساط الشباب تحديا حقيقيا وملحا لخلق فرص عمل جديدة، ويكفي أن نعرف أن الشرق الأوسط بات يتعين عليه توفير نحو 100 مليون فرصة عمل خلال العقد القادم، ولم يعد القطاع العام، الذي يعاني بالفعل من حالة من الترهل وعدم الكفاءة، مستعدا لمواجهة هذا التحدي.

وعاجلا أم آجلا، سوف يضطر صانعو السياسات في المنطقة العربية إلى العودة إلى التحدي التنموي طويل الأجل في المنطقة والمتمثل في التنوع الاقتصادي. في الحقيقة، تتشابك تحديات الديموغرافيا والتنوع إلى حد كبير، فمن دون تطوير قطاع خاص قوي ومن دون تقليل اعتماد المنطقة على الموارد الطبيعية، فإن التقدم الذي حققه العالم العربي في مجال محو الأمية والصحة لن يتم ترجمته إلى رخاء اقتصادي مستدام.

وقد أدركت منطقة الشرق الأوسط منذ وقت طويل، على الأقل في الخطابات الرسمية والوثائق السياسية، الحاجة الماسة إلى التنوع الاقتصادي، ولكن باستثناء بعض النجاحات الجزئية في كل من عمان والبحرين، ظل التنوع الاقتصادي مجرد حبر على ورق. والآن، بات هناك طابعا ملحا جديدا لهذا التنوع بسبب الاضطرابات السياسية التي تشهدها المنطقة في الآونة الأخيرة. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ما الذي يمنع ظهور قطاع خاص قوي، ولماذا بات من الصعب تحقيق هذا التنوع الاقتصادي؟ إننا نحاول من خلال هذا التحقيق المقتضب أن نحدد أحد العوائق الرئيسية التي تحول دون تطور القطاع الخاص، ألا وهو استمرار تشرذم الاقتصاد العربي إلى وحدات جغرافية منفصلة تعاني، في أفضل الأحوال، من ضعف الترابط فيما بينها.

ورغم الماضي التجاري الثري والتراث الثقافي المشترك للدول العربية، فإن العالم العربي يعد واحدا من أكثر مناطق العالم انقساما في الوقت الحالي، من حيث الروابط في الإنتاج والتجارة، كما تعاني هذه المنطقة التي تضم 350 مليون نسمة، من عدم الترابط بين الأسواق الإقليمية التي يوجد كل منها في واد منفصل عن الآخر تماما. وعلاوة على ذلك، ما زالت التجارة البينية بين الاقتصادات العربية ضعيفة للغاية، ولا تشكل سوى نحو 10% من إجمالي التجارة السلعية.

ورغم تنامي حجم التجارة بشكل ملحوظ بين البلدان العربية وبين بقية دول العالم، ولا سيما جنوب آسيا وتركيا، فإن حجم التجارة البينية بين البلدان العربية ما زال كما هو تقريبا منذ الستينات من القرن الماضي، وهو ما يعد فشلا اقتصاديا هائلا له تداعيات خطيرة على المنطقة وعلى نطاق أوسع مما قد يعتقده البعض. في البداية، يجب أن نعرف أن عدم وجود سوق كبيرة ومترابطة في المنطقة يحرم الشركات العربية من وفورات الحجم، التي تعد هي المحرك الأساسي للتنمية والتنوع الاقتصادي، كما يقلل من احتمالات النمو ويعزز من اعتماد الشركات على الدولة ويحرم القطاع الخاص من فرصة أن يصبح دائرة مستقلة للتغير الاجتماعي والاقتصادي.

ولا تتوقف تكاليف التشرذم الاقتصادي عند المعنى البسيط لغياب وفورات الحجم، فغالبا ما تكون الأسواق المحدودة محمية بصورة أكبر وتحافظ على القوة الاحتكارية للعاملين بهذه الأسواق وتزيد من عائدات سلوكيات السلب والنهب والسرقة. وتعني الأسواق المجزأة أيضا أن تكون سوق السلع الرأسمالية المستخدمة صغيرة، وهو ما يمكن أن يجعل الاستثمارات الجديدة محفوفة بالمخاطر، لأن رجال الأعمال يواجهون خطر الدخول في استثمارات سيئة، وهو ما يمكن أن يؤدي في نهاية المطاف إلى خلق بيئة أعمال سلبية وتعزيز أوجه عدم المساواة القائمة بالفعل. وثمة تداعيات أخرى للتفتت الاقتصادي يتجاهلها كثيرون وهي زيادة نفقات الدفاع بشكل مبالغ فيه، حيث تعد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أكبر المناطق إنفاقا على الدفاع (من حيث نسبة الدفاع على الإنفاق إلى الناتج المحلي الإجمالي)، حيث أنفقت المنطقة على الدفاع خلال العقد الماضي ضعف ما أنفقته دول جنوب آسيا. وحتى عندما نعقد مقارنة مع باقي دول العالم، نجد أن نسبة الإنفاق على الدفاع إلى الناتج المحلي الإجمالي مرتفع للغاية في هذه المنطقة، ولا سيما في دول الخليج، وبخاصة عمان والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وثمة تكلفة أخرى لعدم اتحاد تلك الدول تتمثل في نقص السلع والخدمات العامة، وكذلك البنية التحتية، وبما أن فوائد البنية التحتية بين الدول ستعود على جميع مواطني تلك المنطقة، فإن البلدان الفردية لا ترحب بالاستثمار في ذلك المجال، وهو ما يؤدي إلى فشل ذريع في التنسيق فيما بين الدول بعضها البعض.

يعد التشرذم الاقتصادي في العالم العربي أمرا غامضا بسبب موقعه الجغرافي المتميز. تقع منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مفترق طرق كبير وتتصل بسهولة بأسواق أفريقيا وآسيا وأوروبا. مقارنة بأفريقيا التي يعيش فيها 40% من السكان في دول حبيسة، لا يوجد أي دول حبيسة في العالم العربي. وتقدم شمال أفريقيا بشكل خاص صورة درامية جدا. حبا الله المنطقة، التي تمتد من مصر إلى المغرب، بسواحل تمتد لآلاف الكيلومترات. وقرب المنطقة من أوروبا وأفريقيا يجعلها من أفضل المواقع للأسواق الناشئة الأخرى. في كل مكان في العالم، يعني الاتصال بالبحر تكلفة نقل منخفضة وفرص تصنيع أكبر. مع ذلك تسير منطقة الشرق الأوسط عكس قوانين الجاذبية الاقتصادية، حيث تتصل بالساحل دون أن تتصل بالأسواق. وتمثل الجزائر نموذجا مصغرا لفرصة التنمية الضائعة. تعد الجزائر، بفضل السواحل التي تمتد لمسافة آلاف الكيلومترات والمناخ المعتدل والمساحة الشاسعة، نموذجا لمركز إنتاج ضخم في البحر الأبيض المتوسط وجنوب أفريقيا والشرق الأوسط. مع ذلك نتيجة الاعتماد الزائد على الموارد الطبيعية وعقود من سوء الإدارة، تحول المشهد الاقتصادي في الدولة إلى مشهد قاحل عقيم. وحدود الدولة مع المغرب غير مفتوحة للتبادل الاقتصادي المثمر.

هناك جانب آخر جغرافي يتميز به الشرق الأوسط ويخفق في الاستفادة من المزايا الطبيعية الموروثة المرتبطة به وهو المناطق الحضرية. يعيش على الأقل 50% من إجمالي السكان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، باستثناء اليمن، في مناطق حضرية. ويضع آخر تسجيل للتمركز الحضاري المنطقة في مركز متقدم على دول نامية أخرى بما في ذلك الدول التي توجد في أميركا اللاتينية، مما يجعلها واحدة من أوائل الدول من حيث عدد المراكز الحضرية في العالم. وتشير الأدلة الأخيرة إلى أن إنشاء المراكز الحضرية يمكن أن يعود بمنافع ملموسة على الشركات من خلال إقامتها في مراكز حضرية مما يجعلها لا تتمتع بقربها من الأسواق فحسب، بل أيضا بميزة كبيرة تتمثل في الانفتاح على عدد من الأنشطة الداعمة المتنوعة من مهارات وآلات ومزودات وموارد وما شابه.

ويفتقر المشهد في الشرق الأوسط إلى هذه الكتلة الاقتصادية. وحتى إذا كان اقتصاد الدول العربية لا يعاني من المعوقات والحواجز الجغرافية البنيوية التي تعرقل تحقيق الرخاء في أفريقيا، صنعت المنطقة حواجز بيديها تعوق التجارة. وتم وضع قيود صارمة على حركة السلع والعمال عبر الحدود. تعكر السيطرة المركزية والإجراءات العشوائية صفو مناخ العمل. ورغم الحد من حواجز التعريفة الجمركية، ما زالت صعوبة وغموض الحواجز، التي تتعدى الحدود، سببا للمشاكل في التجارة. واستمرت الإجراءات الروتينية المعقدة في الشرق الأوسط لفترة أطول مما استمرت في أي مكان آخر في دول العالم الثالث. إن إزالة هذه الحواجز ليس بالأمر السهل فهي مصدر رئيسي للدخل بالنسبة للمحليين الذين يستغلونها في التلاعب بالنظام الاقتصادي لمصلحتهم الشخصية.

في هذا الموضع، رسخت الثورات السياسية الأخيرة في المنطقة بداية للتغيير. لقد كانت إزالة الحواجز التجارية الإقليمية أمرا مرغوبا فيه من الناحية الاقتصادية، غير أنه كان خطوة غير ملائمة من الناحية السياسية. لقد تم طرح عدة مبادرات تجارية إقليمية في الماضي، غير أنها ظلت مجرد نوايا طيبة. لقد أحبطت المنافسات الداخلية والاعتماد على القوى الخارجية وغياب دائرة انتخابية محلية قوية المحاولات السابقة لتحقيق التكامل للاقتصادات الإقليمية.

إن جزءا من هذا الإخفاق متأصل بالفعل في هياكل الإنتاج التي تبدو متماثلة أكثر من كونها مختلفة، غير أن رد فعل سياسيا تمكينيا – على سبيل المثال، عبر سياسة صناعية منسقة إقليميا – طالما كان مفتقدا. لقد عزل الاعتماد على المكاسب غير المتوقعة الخارجية من النفط والمساعدات المنطقة عن الضغوط من أجل تحقيق تعاون اقتصادي. والآن، تدعو التحولات الديموغرافية والسياسية في المنطقة إلى منطق جديد من التكامل الاقتصادي. يعتبر التحدي الديموغرافي شائعا بالنسبة لجميع الدول العربية؛ وهو يستحق بالمثل رد فعل مشتركا. بالنظر إلى التكاليف المتعددة للتشرذم الموضحة أعلاه، من الواضح أن الفشل في تنمية قطاع خاص قوي ليس مجرد إخفاق للسياسات الاقتصادية الوطنية، وإنما إخفاق إقليمي.

لقد كانت الحدود المتصلبة والأسواق المحدودة في المنطقة بمثابة مصدر ضرر للقطاع الخاص. ورغم ذلك، فإنه لكي يتأصل نشاط اقتصادي محوري، تحتاج المنطقة إلى النقيض تحديدا: حدود مرنة وأسواق واسعة النطاق.

في هذه البيئة، يعتبر تعزيز التعاون الاقتصادي الإقليمي هو أهم مشكلات العمل الجماعي التي قد واجهتها المنطقة منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية. إن تزامن سقوط الإمبراطورية العثمانية مع إزالة خط سكة حديد الحجاز الذي ربط دمشق بالمدينة. وبعد مرور قرن من الزمن، تواجه المنطقة تحدي إعادة الربط بين أسواقها لتيسير حرية حركة البضائع والأفراد ورأس المال. تتطلب مخاطبة تحديات التطوير طويلة الأمد نهجا إقليميا. ويجب أن تتمثل نقطة البداية لتحقيق ذلك في بنية تحتية ضامة وإمكانات اقتصادية أعظم تتعلق بتنظيم المشروعات الصغيرة والمتوسطة. هنا، تعتبر الدروس المستفادة من تركيا تثقيفية على وجه الخصوص. يرتكز النجاح الاقتصادي الأخير لتركيا، إلى جانب عوامل أخرى، على استراتيجية يسرت التجارة وحولت الشركات من الهامش إلى المحور. حتى الآن، أصبح من الأسهل الوصول إلى إجماع في العالم العربي بشأن الأمور المتعلقة بالأمن. غير أن المخاوف من الأمن الاقتصادي أصبح من المرجح أن تكون لها تأثيرات بعيدة المدى في الأعوام المقبلة، وتستحق تحولا مماثلا واستجابة موحدة.

ثمة بعض الإشارات الإيجابية المتاحة بالفعل. جاء الإدراك الرسمي لأهمية تحسين إمكانية الاتصال على المستوى الإقليمي متأخرا. على سبيل المثال، يخطط مجلس التعاون الخليجي لإنفاق 142 مليار دولار أميركي على مشروعات البنية التحتية الإقليمية. ويشمل هذا نفقات تقدر بـ79 مليار دولار أميركي على تطوير شبكة سكك حديدية ترمي إلى الربط بين اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي. غير أن ثمة حاجة إلى تيسير أجندة التعاون الاقتصادي الإقليمي على نحو يتجاوز القيود الحصرية لدول مجلس التعاون الخليجي. لقد تركز الحوار الحالي في المنطقة على ضرورة القيام بإصلاحات سياسية. ويشكل هذا أهمية. غير أن المكاسب التي تحققت على صعيد الحريات السياسية لا يمكن تعزيزها من دون تغيير اقتصادي هادف. وفي نهاية المطاف، لن يحتاج العالم العربي إلى مجرد قواسم سياسية مشتركة، بل أيضا إلى قواسم اقتصادية إقليمية تعمل كبيئة مساعدة على تنظيم المشروعات الرائدة والنمو.

* عادل مالك محاضر في المركز الإسلامي في اقتصادات التطوير بجامعة أكسفورد وزميل بكلية سان بيتر بأكسفورد. وباسم عوض الله وزير المالية والتخطيط السابق الرئيس السابق للديوان الملكي بالمملكة الأردنية الهاشمية. ويعتمد هذا التعقيب على ورقة مشتركة، لمالك وعوض الله، تحمل اسم «اقتصادات الربيع العربي»، المقرر نشرها في الدورية متعددة التخصصات: «وورلد ديفيلوبمنت»، ويمكن الوصول إليها عبر الموقع الإلكتروني:

http://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0305750X1300003X