صاحبة الكبرياء الأنثويّة

TT

ذهبت لأعود زميلا لي من أيام الدراسة وكان مريضا، وخشية مني أن (يفطس) قبل أن أراه، ذهبت لزيارته في منزله، وأخذ يذكرني بالأيام الخوالي التي لا أريد أن أتذكرها.

وسألني فجأة: «هل تذكر أول حب مر عليك في حياتك؟!»، فقلت له: إنني لا أتذكر حتى عشائي الذي أكلته البارحة، فمن نعم ربي أنه فطرني على النسيان، وأحمد ربك أنني تذكرتك بالصدفة من دون سابق إنذار.

ضحك من جوابي قائلا: «هذا هو أنت منذ أن كنت تلبس البنطلون القصير، إلى أن أصبحت تلبس (الشماغ) وتنكس العقال و(تتصرمح) بالمولات، وكأنك (فلنتينو بن عجلان)».

أعجبني تعليقه، لهذا لم أرد عليه، وخوفا مني أن يفتح مواضيع لا أحبذها، طلبت منه سريعا أن يفتح لي قلبه ويحدثني هو عن حبه الأول.

نهض من مكانه وغاب عني برهة ثم عاد ومعه ورقة متهرئة، وقال:

«منذ طفولتي همت غراما ببنت الجيران، الذين كنت أدخل منزلهم من دون استئذان، وعندما بلغت 13 سنة من عمري، أردت أن أعبر لتلك البنت عن مشاعري، فاقتنيت كتابا يعلم المبتدئين كيف يصوغون الرسائل، ووجدت فيه عنوانا فحواه: من شاب إلى فتاة يطلب يدها. واعتقدت حينها أنني وقعت على كنز». ونسخت الرسالة كما هي بحذافيرها، وأخذتها منه وها أنا ذا أطرحها أمامكم، وجاء فيها:

«لقد انقضت سنة ونصف سنة منذ ما كرّمتني باستقبالي كصديق في منزلك. في الردح الأكبر من ذلك الوقت، لم يغرني شيء سوى جمالك، ولم يكن لي أمل إلا الحصول على رضاك، ترى هل أفلحت في هذا؟ إني لا أشعر أن سعادتي وقف على جوابك، ولا تظني أن هذا شعور آني زائل، إنما هو الحب الراسخ القائم على التقدير والإعجاب اللذين بقيا، طوال هذه الأشهر، أعزّ حلم في حياتي، إلا أن كبرياءك الأنثوية أبقت قلبك مخبوءا بحيث لا أجرؤ على التفكير أن لي مكانا هناك، ولكن لا يسعني الانتظار بعد اليوم. ولذا أكتب إليك إما نائلا كل شيء؛ وإما فاقدا كل شيء.. معبودك المتيم (.....)».

ويمضي زميلا قائلا: «بعثت بهذه الرسالة مع أخيها ذي الستة أعوام لكي يضعها فوق مخدّتها، ومن سوء حظي أن أمها أخذت منه الرسالة، وبعد يومين عندما شاهدتني استدعتني وأعطتني الرسالة قائلة وهي تبتسم بتهكم: خذ أيها (المعبود المتيم)، ألا زلت تريد أن تقابل صاحبة الكبرياء الأنوثية؟!». وأضاف قائلا: «ومن يومها، انقطعت عن دخول منزلهم من شدة الكسوف» - انتهى.

وبما أننا بصدد كتابة الرسائل و(الكليشات) التي تصاغ بمقدماتها دون أن تعني شيئا، فبالصدفة كنت أقرأ قبل أيام في كتاب (تاريخ الكويت السياسي)، وإذا بي أقع على رسالة بعث بها جنرال الدولة البريطانية العظمى (نوكسي) إلى الشيخ (خزعل) حاكم (المحمّرة) العربية سنة (1914) جاء فيها بكل خباثة ولآمة:

«إلى جناب الأجل الأكرم الأعز الأمجد الأحشم الأفخم المفخم عمدة الأصحاب الشيخ (خزعل)، يشرفني أن أنقل إليك اعتراف بريطانيا باستقلال إمارتك واستعدادها للقيام بحفظها من اعتداء أي دولة كانت بما فيها إيران»، وأنهاها: «تقبل مودتي واحترامي، المخلص (....)».

وما هي إلا عدة سنوات قليلة حتى سلمت بريطانيا إمارة المحمرة بقضها وقضيضها وشعبها وبترولها إلى إيران على طبق من ذهب، وطار (عمدة الأصحاب) إلى حيث ألقت.