الحوار ليس حلا

TT

تملأ دعوات الحوار الأفق السياسي في العالم العربي اليوم، ففي سوريا لم ين بشار الأسد يدعو لحوار إثر حوار، حتى خرج رئيس الائتلاف السوري معاذ الخطيب بدعوته للحوار المباشر مع نظام الأسد، والتي استجاب لها النظام بتردد.

في مصر، أصبحت الدعوة للحوار تتكرر كلما اشتدت الأزمات وتعقدت الأمور وقل مثل هذا في تونس واليمن ودول الاحتجاجات العربية، فالحوار لم يعد وسيلة لإيجاد مخارج حقيقية وحلول واقعية للأزمات والمشكلات الكبرى بل لقد أصبح أقرب ما يكون إلى طلب مفتوح لمنح مزيد من الوقت أو مهلة من الزمن حتى يستطيع من بيدهم السلطة حسم الأمور أو على الأقل أن يمنح كل الفرقاء فرصة التخندق والعودة للمربع الأول في دائرة لا تكاد تنتهي.

إن الأمر الذي لا يستحضره الكثيرون هو أن الحوار السياسي يراد به خلق اتفاقات تقوم على توازن ما بين وجهات النظر المتعددة والتيارات المختلفة والأحزاب المتناقضة تضمن إيجاد حلول وسط تمكّن من إكمال المسير وتحقيق النجاح، وهو يقف تماما على العكس من الحوارات العقائدية والدينية والمذهبية التي غالبا ما يقوم هدف أصحابها - بحكم آيديولجياتهم - على الفرض والدفاع والنقض، أي فرض الآيديولوجيا التي يعتقدونها والدفاع عنها بشتى السبل ونقض مخالفيها بكل الطرق.

ليس من غرض هذا السياق التقليل من حوارات العقائد والآيديولوجيات أيا كانت مسمّياتها ومستوياتها، فهي حين تقام لأهداف نبيلة تتقصد التعايش والتسامح ونحوهما من المفاهيم - بعد تمحيصها - تكون نافعة وذات جدوى، ولها في التاريخ أمثلة وفي الواقع شواهد، ولكن الأهم هنا هو تأكيد ظاهرة بدأت تلجأ إليها الأنظمة الآيديولوجية في المنطقة قديمها وحديثها، قديمها الذي تبرز أوضح أمثلته في الجمهورية الإسلامية بإيران وأتباعها في العراق ولبنان واليمن ونحوها، وجديدها الذي يبرز في بعض دول ما كان يعرف بالربيع العربي في مصر وتونس، وهي ظاهرة الخلط بين الحوار السياسي والحوار الآيديولوجي.

إن خلطا كبيرا يجري اليوم بين هذين النوعين من الحوار، والفرز بينهما ليس سهلا، فتسلل المفاهيم الآيديولوجية المصمتة التي تحاور بغرض الإثبات والحماية إلى الحوار السياسي الذي يفترض فيه البحث عن المصالح وتفهمها والموائمة بينها لا يؤدي إلا إلى مزيد من نشر أوحال الآيديولوجيا التي تغرق فيها عجلات الحوار في دروب السياسية.

حين يحاور السياسي فهو يقبل ببعض التنازلات هنا أو هناك ولكنّ المؤدلج ليس كذلك، فالمؤدلج يقبل الحوار ليخدمه في إلغاء المخالف وإخضاعه وإقصائه أو القضاء عليه، فإن لم يستطع ذلك فإنه يلجأ حينها إلى استخدام المخادعة أو النفاق التي يفترض أنها نقيض آيديولوجيته، ليس بمعنى أن السياسة لا خداع ولا نفاق فيها بل باعتبار المنطلق الأساسي الذي يقوم عليه الحوار ويروج للأتباع، فالسياسي ينطلق من المصالح بشتى أنواعها وهو يبذل فيها الغالي والنفيس خدمة لبلاده ولمستقبلها، والمؤدلج يفعل الأمر ذاته، وهو يركب لذلك الصعب والذلول، ولكنّ المؤدلج يختص بذلك تياره وجماعته دون الوطن والمواطنين، وحين يدخل المؤدلج السياسية فهو لا يفتر يكذّب آيديولوجيته ويناقض خطابه الديني، ويترك أتباعه في حيص بيص.

في تونس وفي العالم العربي كان يتمّ تقديم زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي دائما بوصفه مدنيا متقدما في خطابه على خطابات الإسلام السياسي في المنطقة، وفي هذا شيء من الصحة غير أنّ حزب «حركة النهضة» ليس بريئا أبدا من حب السلطة وبالتالي الاستحواذ على تونس الدولة بعد فوز حزبه وتشكيل الترويكا، ومع ما يدور من جدل ساخن في تونس بعد اغتيال شكري بلعيد وإجبار الأحداث الكثير من الأطراف على الخروج عن صمتها وتحديد مواقف أكثر صراحة وجرأة وأبعد عن المناورة والحسابات، وبعدما طرح رئيس الحكومة حمادي الجبالي مبادرته بتشكيل حكومة تكنوقراط شعر الغنوشي أن الأمور قد تخرج من يده وهو يسعى لمنع ذلك داخل حركته وفي تونس الدولة.

وفي هذا فمن المهم للمراقب والمتابع أن يقف طويلا عند تصريحات نائب الغنوشي عبد الفتاح مورو - وهذه ليست أول مرة يخالف فيها الغنوشي - فهو قال بحسب هذه الصحيفة يوم أمس، «على رئيس الحركة التنحي وإفساح المجال لشخصية أخرى تكون قادرة على تأمين السلم الاجتماعي في تونس» وتحدث عن «الانغلاق الفكري وعدم الانفتاح على الثقافات الأخرى» وأكد أنه «لا يكفي أن تكون مسلما لتحكم الناس» وربما كان الأجدر أن يقول إسلامويا، وحذر من مسار الحركة «الذي يقود البلاد إلى كارثة»، وأهمية حديث مورو تكمن في إسلامويته المعروفة وثقافته المنفتحة والواسعة مقارنة بالغنوشي، وفي أنّه خصم عنيد للمتشددين الإسلامويين بخلاف الغنوشي الذي لا يمانع من التقارب معهم واستخدامهم كورقة يطرحها في أي حوارات سياسية يدخل فيها مع الفرقاء التونسيين.

هذا كله وأمثاله من قبل ومن بعد يجري في دول الاحتجاجات العربية حيث الفوضى هي العنوان الأبرز والتيه هو الدليل، وكما تمّ العبث بكثير من المفاهيم الحديثة كالحرية والعدالة والحقوق ونحوها، وكما يتمّ العبث بالواقع بحيث تقوم السلطة الحاكمة والمسؤولة عن ضبط الأمن وضمان الاستقرار بإخراج مليونيات جماهيرية للشارع تنشر الفوضى وتعاند الفرقاء السياسيين وتناكفهم بدلا من القيام بعملها من خلال تنفيذ الخطط والبرامج التي هي مسؤولة أولا عن تحقيقها، فكذلك يتمّ العبث بالحوار السياسي من خلال تشويه وقتل فعاليته عبر توظيفه كآلة لإيقاف الزمن وكسب الوقت والتقاط الأنفاس.

يعلم أغلب الناس أنّ بشار الأسد لا يقول الحقيقة في إعلانه الحوار حلا طرحه مرارا وتكرارا أو في استجابته المترددة لطلب الحوار، وأصبح يعلم الكثيرون أن دعوات الحوار التي تطلقها السلطة الجديدة بمصر ليست صادقة، وها هي تونس تلحق بالركب في نموذج لا يختلف كثيرا عن أضرابه من الحركات في العالم العربي.

أخيرا، فما تنتهجه الحركات المؤدلجة من تشويه واستغلال للحوار السياسي إن عبر توظيفه السافر وإن عبر شحنه بالحوار الآيديولوجي ليس خطيرا على الواقع السياسي فحسب بل هو خطير على الوعي بشكل عام، وذلك حين لا يصبح الحوار حلا.