الليبيون وتحديات بناء الدولة

TT

ليبيا إلى أين؟ سؤال كبير يُطرح بأشكال عدة في مستويات وطنية وإقليمية ودولية. سؤال يطرحه المتشائمون كما المتفائلون. ليبيا هذا البلد الغني بثرواته الطبيعية وموقعه المميز على ضفاف البحر المتوسط وصحاريه الممتدة نحو الجنوب يحظى باهتمام ملحوظ، وخاصة فيما يتعلق بأمنه واستقراره. فأمنه واستقراره يعني الكثير لصنّاع القرارات السياسية والاقتصادية، ويعني الكثير لرجال الأعمال وشركاتهم التي تتأهب للحصول على عطاءات واتفاقات استثمارية تحسب بمئات الملايين؛ فليبيا التي تركها الحكم السابق من دون بنية عمرانية ومن دون مؤسسات تعتبر بلدا جاذبا ومغريا للباحثين عن الاستثمار في شتى مجالاته الحيوية. ليبيا كانت كثيرا ما توصف بأنها صندوق من الرمال، ولكنها اليوم هي صناديق من الذهب في الصحارى وفي البحار أيضا.

الليبيون بتضحياتهم أولا وبمساعدة المجتمع الدولي ثانيا حققوا حُلم الثورة بالتخلص من سلطة غاشمة. ومن المعلوم أن هدم تلك السلطة قد استغرق نحو 8 شهور (فبراير «شباط» - أكتوبر «تشرين الأول» 2011)، وكانت خسائرها عالية بشريا وماديا غير أن الأرقام الحقيقية لم تُنشر بصورة دقيقة حتى الآن. لكن عملية بناء الدولة، وهي الحلم الثاني للشعب الليبي، سوف تستغرق سنوات عدة وقبل إنجازها سيواجه بُناتها تحديات كثيرة متداخلة متشابكة، وأخطرها ذلك الركام الهائل من التلوث الثقافي الذي أفسد النفوس والعقول في عهد الديكتاتور القذافي، حتى اكتشفنا أن الفساد الإداري والمالي الذي أصاب منظومة القيم الاجتماعية هو أعمق مما كنا نتصور خلال مراحل النضال، ولا تزال البلاد تعاني من ثقافة الفساد والإفساد.

وقد برزت آثاره فورا عقب سقوط تلك السلطة في شكل اعتداءات على الأموال والمباني والمزارع والعربات والمكاتب، وكلها كانت تُمارس باسم الثورة والثوار، بل الأخطر عندما تحولت بعض المجموعات المسلحة إلى قوة تعيق وتربك حركة التغيير والبناء مستثمرة ضعف الدولة وفوضى إعلامية يتولاها أفراد لا يتمتعون بالخبرة الكافية، فهم بعض ضحايا ذلك العهد المفلس مع بعض الاستثناءات، حيث أثبت بعض الشباب من الجنسين أنهم على قدر جيد من الكفاءة. ومن الأمور المطمئنة أن تلك الحالة التي تمثل نوعا من الخروج عن الشرعية صارت تضعف تدريجيا، وستنتهي في وقت تتقوى فيه مؤسسات الدولة، ولا شك أن بطء استكمال بناء مؤسسات الدولة جعل تلك الجماعات غير المنضبطة تمارس عملية ابتزاز مرهقة للمجتمع وللقوى السياسية والأمنية الشرعية، وقد أثبت المؤتمر الوطني كما الحكومة أن هناك عزيمة واستعدادا لديه لمواجهة الخارجين عن الشرعية باتخاذ عدد من التشريعات، وبالمضي نحو تنفيذها بالقوة إذا لم تفلح لغة الحوار وخطب ودعوات المصالحة.

وهناك التحدي الثاني، وهو من الأهمية بمكان. إنه عملية اختيار لجنة صياغة مواد الدستور ثم الدخول في مرحلة كتابة نصوص الدستور، وما يقتضيه من قدرة على التوافق والوصول إلى وضع دستور عصري يجمع بين تطور التشريعات الإنسانية ومقاصد الشريعة الإسلامية السمحة ومدارسها المتعددة، أما التحدي الثالث، فهو هيكلة مؤسسات الدولة على أسس حديثة بحيث تصبح كل الشؤون الإدارية والمالية تعمل بطرق صحيحة تحقق الشفافية وتمنع الفساد وتدفع إلى تحسن الأداء اليومي وإنجاز الخدمات العامة في أقصر الأوقات، وهذه الهيكلة الجديدة تتطلب مهارات عدة وتحتاج إلى بعض الوقت، ولكنها ممكنة في عصر الثقافة الرقمية والتطور التقني الذي يسر إمكانية التغيير السريع كلما توفرت إرادة التغيير.

تحتفل ليبيا اليوم بالذكرى الثانية لثورة 17 فبراير، وستطرح أسئلة عدة عما تم عمله وإنجازه في البلاد، ولا بد من القول: إن ما أنجز على الرغم من أهميته لا يتناسب مع طموحات ورغبات شعبنا، وتلك هي علامات النمو والوعي في أي شعب من الشعوب، بحيث تظل قوة الدفع نحو مستقبل أفضل وأقوى حالة ملهمة وضاغطة من أجل أداء أفضل في جميع المجالات وعلى كل المستويات. وسط كل هذه الأجواء والتساؤلات يمكنني أن أقول بكل ثقة وبكل تفاؤل إن ليبيا بمؤتمرها العام وحكومتها المؤقتة وتجربتها الحزبية الحديثة ومنظماتها المدنية تتحرك وتعمل في الاتجاه الصحيح نحو هدف أساسي هو بناء دولة القانون والحياة الديمقراطية، وتنظيم وضبط حرية الإعلام والمعلومات، والانطلاق نحو البناء العمراني الذي يحقق الرفاه الاجتماعي والاقتصادي عبر سياسات وخطط ومشاريع مثمرة.

هناك قوى اجتماعية تشكلت في مجالس الحكماء ومجالس المدن ومجالس الشورى، وهناك المساجد والجامعات كلها تنشط لتحقيق الوفاق الوطني وبناء الدولة وإفشال أي فكرة تهدف إلى إرباك حركة التقدم نحو البناء الديمقراطي السليم. وقوى الشعب الليبي الحية والفاعلة تدرك أن التحول من الثورة إلى الدولة يستغرق بضع سنوات.

ومن التطورات الإيجابية ما تشهده البلاد من حركة عمرانية وتجارية، فالنفط يصدر بانتظام، وبمعدل يصل إلى أكثر مليون ونصف المليون برميل يوميا، والموانئ والمطارات تعمل بانتظام على مدار الساعة، وعملية بناء المساكن وبيع وشراء الأراضي على مستوى القطاع الخاص بلغت أسعارها أرقاما خيالية، وكل ذلك يدل على أن الأسواق والمصارف تعمل في البلاد بثقة وتفاؤل وبحذر أيضا. والشركات والوفود التجارية الأجنبية تتدفق على البلاد من مختلف أنحاء العالم باحثة عن فرص للعمل والاستثمار في القطاعين العام والخاص، وهناك نشاطات تتعلق بإقامة المعارض والمؤتمرات العلمية في مدن عدة. والشعب الليبي الذي تبلغ فيه نسبة الشباب أكثر 65 في المائة، سيتعامل مع كل التحديات بإرادة التغيير والرغبة في الوصول إلى تحقيق دولة القانون التي تتطلب التغيير الثقافي الضروري الذي يؤدي إلى تغيير طرق التفكير وما يتبعها من نتائج في السلوك، وكل ذلك يحتاج إلى الوقت الكافي ويعد بالسنوات. وكما حقق الشعب الليبي بتضحياته وصموده حلم الثورة وإسقاط سلطة الظلم والفساد والتخلف، سوف يحقق بعزيمة رجاله ونسائه حلم دولة القانون والتقدم والرفاه الاقتصادي والاجتماعي.

* سفير ليبيا في لندن