العرب بين ثورات مضطربة واستبداد مستقر

TT

قاتل الله القمع والاستبداد، يظلان على الرغم من نكدهما وفسادهما وظلمهما ومآسيهما ووحشيتهما، فيهما إثم كبير ومنافع للناس، تماما مثل الخمر، وإحدى أكبر منافع الاستبداد التي افتقدتها دول الثورات العربية الأمن والاستقرار الاقتصادي، وهذا بالضبط ما يجري في مصر وتونس وسوريا وليبيا والعراق والصومال، مع إيماني بأن العراق والصومال على وجه التحديد تجربتان مغايرتان تماما عن بقية ثورات الربيع العربي، إذ لم تكونا ثمرة حراك جماهيري كبير.. فالعراق أسقطته دولة كبرى وهاجمته في عقر داره، والصومال تخلخل فيه حكم سياد بري فانفلت العقد الذي ينتظمه بتعقيداته القبلية والفكرية.. لكن يبقى أن «المشترك» الذي يجمع العراق والصومال ببقية دول الثورات العربية هو «قسرية» التغيير ضد نظام قوي مستقر، بغض النظر عن فاعل التغيير. فأنظمة صدام ومبارك وبشار وبن علي وصالح وبري والقذافي كانت تسيطر عليها زعامات تمسك بكل مفاصل البلاد وبقبضة حديدية قوية، صحيح أنها كتمت أنفاس الشعوب، وبددت ثرواتها، وبطشت وفتكت وقتلت، لكنها وفرت في المقابل بلادا مستقرة وحكومة قوية مركزية مهيبة.

لم يظهر إلى الآن في أفق دول الربيع العربي، كلها بلا استثناء، ما يسعد قلوب جماهيرها، فهي وإن اقتصت من جلاديها وأسقطتهم، واستنشقت عبير الحرية والتعبير عن إرادتها، فإن هذه الثورات خلفت في بعضها دمارا هائلا ومئات الألوف من القتلى والجرحى وملايين المشردين كسوريا، وفي أحسن أحوالها خلفت حكومة مركزية ضعيفة، وأمنا هشا، واقتصادا يترنح، واضطرابات في الشارع خرجت عن سيطرة الدولة، كما في مصر وتونس واليمن، وأما ليبيا فلا تتجاوز سيطرة حكومتها العاصمة طرابلس، وبقيت بقية الأقاليم تحت سيطرة الكتائب التي توجهها القبائل أو كتائب الجماعات المسلحة التي تغذيها آيديولوجيات مختلفة.

أدرك يقينا أن أحد أبرز أعراض الثورات في القديم والحديث، عند العرب والعجم، كل الذي نشاهده الآن في دول الثورات العربية من هشاشة أمنية واضطرابات سياسية وترنحات اقتصادية، وأن وضع هذه الدول بعد الثورات مثل وضع المريض بعد عملية تغيير للقلب أو استئصال ورم كبير في المخ، يحتاج مدة طويلة لكي يتعافى، لكن تبقى الملاحظة الأهم في هذا الشأن، أن الثمن المدفوع باهظ جدا وخطر جدا، فالثورات في خطورتها تشبه تماما العمليات الخطيرة؛ إما أن تؤدي إلى نجاح تام، أو موت، أو حالة خطرة بينهما، فلا هو الذي عاش كما يعيش الأصحاء ولا هو الذي ارتاح مع الأموات.

المسألة البالغة الأهمية في هذا الشأن أن هناك شعوبا لم تندلع فيها الثورات ما برحت تنظر في الثورات العربية ملهما للتغيير، وصارت تنتشي بتساقط رؤوس أنظمة الاستبداد، وتتلذذ بهدير الجماهير في المليونيات، وتتغاضى تماما عن الحالة الخطرة التي خلفتها الثورات.. هذا الشعور، مع حالة الاحتقان التي تسبب فيها الفساد والترهل الإداري وتقليل جرعة المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار، هو الذي يهيئ مناخا ملائما لاكتساب العدوى، مما يجعل عددا من هذه الدول في غير مأمن من انتقال حريق الثورات إليها، وعليه فمن الخطأ التعويل على تغيير قناعات الشعوب؛ فهذه غاية شبه مستحيلة، والأكثر واقعية أن تعمد الحكومات إلى مواكبة المتغيرات بما يناسب من إصلاحات حقيقية ومكافحة صادقة وفاعلة للفساد.