موسكو تحول العرب إلى جراد!

TT

مع الاعتذار عن التشبيه، إلا أن الحقيقة تبقى مجردة، وهي بالضبط ما قصد العنوان، فمن المعروف عن الجراد أنه إن لم يجد ما يأكله أكل بعضه بعضا حتى الفناء، وهذا ما يحدث للعرب في السنتين الماضيتين، في سوريا أولا، وفي أماكن أخرى من هذا العالم العربي المنكوب ثانيا، لقد تركوا ليأكل بعضهم بعضا.

فموسكو ومعها بكين، لأسباب كثيرة أهمها ما هو اقتصادي، تقف حجر عثرة أمام المجتمع الدولي من أن يتخذ قرارا بوقف حمام الدم والقتل اليومي الذي لا يبدو أن له نهاية. صحيح أن موسكو ليست الوحيدة، فهناك الجارة إيران التي تمول وتضع في خزانة الروس بعض المال أو بعض السلع، وترسل الأخيرة السلاح إلى دمشق، وتقف أمام أي محاولة لوقف النزيف إلا إذا كان لها من الربح نصيب من هذا التوقف إن حصل.

الأسبوع الماضي نشر في صحف الكويت نحو أربعين اسما قتلوا في سوريا من الكويتيين، وبالتأكيد هناك آخرون - لا يعرف أحد عددهم - من بلدان عربية أخرى لقوا حتفهم هناك، وقد تدفقوا إلى سوريا لنصرة إخوان لهم يقتلون بيد عربية وربما بمشاركة بعض الخبراء (الأجانب)، كل هذا يحدث ولا ترف لأي مسؤول كبير روسي أو صيني أو حتى إيراني عين للنظر إلى احتمال أن يتوقف هذا النزيف.

النتائج كارثية على المنطقة أيضا، لو عاد الذاهبون إلى سوريا من المشرق والمغرب من العرب أو غيرهم بدافع الغيرة وطلبا للنصرة، مدربين على استخدام أنواع مختلفة من السلاح، وينظرون إلى الموت اليومي نظرة مؤاخاة ومعرفة حميمية، عودة بعضهم إلى مجتمعه - إن عاد - يصبح قابلا للاستخدام، كما فعل من هاجر إلى أفغانستان أو البوسنة من قبل. إذن نتيجة أكل الجراد بعضه لبعض لن تتوقف على الجراد في سوريا أو العراق، بل سوف تمتد - كلما طال زمن الصراع على الساحة السورية - إلى أماكن أخرى من هذا العالم المحبط، مؤسسا لصراع داخلي خبيث.

ما الثمن الذي تستفيد منه موسكو؟ إذا تجاوزنا الثمن السياسي الذي تحاول طهران الاحتفاظ به، وهو توسيع رقعة نفوذها، على الأقل لإقناع بعض شعبها أنها تحقق شيئا، فموسكو وكذلك بكين بموقفهما السلبي المتصلب في مجلس الأمن لا تحققان إلا بعض الموارد المالية، من خلال إمدادهما بمال أو نفط إيراني. ليس مهما لدى موسكو، وهي الأكثر تصلبا، كم يقتل من العرب، ولا أرى أن بكين قد اقتنعت باتخاذ موقف إنساني بعد كل هذا الدم السائل المهدر.

البعض في توسيعه لرقعة المسؤولية يشرك الولايات المتحدة في هذا الموقف السلبي من الاقتتال المدمر، والمبرر الذي يساق أن الولايات المتحدة انكوت من حربين ضروسين في كل من أفغانستان والعراق، ولا تريد أن تغامر بحرب ثالثة، إلا أن ذلك الأمر لمن يده في النار غير مقنع، فهي التي كانت خلف اتفاق جنيف - سيئ الذكر - قبل أكثر من نصف عام، الذي خرج جميع من وقع عليه بتفسيرات متناقضة لتفسيرات الطرف الآخر، وهل كان من صاغ ذلك البيان ساذجا إلى هذه الدرجة، أم هو تكرار لقضية أرقت العرب من قبل؟ وهي قرار مجلس الأمن الأشهر 242 بعد حرب عام 1967 الذي اختلف بعد ذلك في تفسيره حتى يومنا هذا.

كل الأحاديث السياسية التي تم تداولها خلال الأسابيع الأخيرة أن ثمة توافقا باتجاه حل سياسي في سوريا قد تبخرت، وقد أجمعت المعارضة السورية في الداخل والخارج، بعد محاولات إيجاد رأس جسر للحل السياسي، على أن تستمر في المقاومة، التي يتدفق إلى ساحتها الآن عدد كبير من المناصرين من خارج سوريا، وهم مناصرون ليس للمقاومة السورية فقط، بل وللنظام، عربا وغير عرب، كما تستقطب من الشعب السوري إلى جبهة المقاومة فئات كانت على الحياد حتى وقت ليس ببعيد.

أمامنا إذن معركة طويلة ساحتها المباشرة سوريا، ولكن أطرافها دول كثيرة داخل الإقليم وخارجه، وليس من المستبعد أن تتوسع النيران إلى أماكن أخرى، إما من خلال التدخل الواعي وإما بالمصادفة أن تنزلق قوى جديدة إلى أتون هذه الحرب فيحدث الصدع الأكبر، وهو حرب أهلية إقليمية.

من المفروض أن العالم في نهاية المطاف يحكم، على الأقل معنويا، بمجلس الأمن، الصيغة التي توصلت إليها البشرية لحقن الدماء واحتواء المنازعات، ولأول مرة يقف مجلس الأمن عاجزا عن عمل شيء مفيد تجاه ما يحدث في سوريا.

قراءة النظام السوري للأمر يشي بها من يتحدث باسمه في وسائل الإعلام، فمعظم من تحدث أظهر عداء واضحا لأي اقتراحات تجاه الحل السياسي، بل إن بعضهم قال: لا نريد أن نسمع مثل هذه الاقتراحات، وغير معنيين بها، على طريق الشعار المعروف والممجوج «الأسد إلى الأبد»! تلك قراءة نظام قرر أن يسير في اتجاه الإنكار إلى آخر المطاف، والعالم بين حلين لا ثالث لهما، إما أن يترك عدد الضحايا السوريين كل يوم على شاشات المحطات الفضائية يتصاعد، وهو لا يقل عن مائة ضحية كل يوم، وإما أن يتدخل أخلاقيا وسياسيا لوقف هذا العنف وذاك النزيف. لم تعد جامعة الدول العربية مقنعة وهي تحضر لاجتماع بعد اجتماع، فالدول العربية وتركيا معنية بوقف الحريق السوري عن طريق نشاط أكثر حيوية وبرؤية واضحة، لأن استمراره لن يقضي على مدن وشعب سوريا فقط، بل سوف يكون وقوده أيضا دول الجوار، التي سوف تتحول عاجلا أم آجلا إلى جراد بالمعنى المعنوي.

آخر الكلام:

من المظاهر السياسية الجديدة لدى العرب أن الحزب يقود الدولة وأيضا يقود المعارضة في الشارع، فمسيرات النهضة في تونس، وهي الحاكمة، ومسيرات الحرية والعدالة في مصر، وهي الحاكمة، تذكر أن الحكم العربي الجديد يريد أن يستولي على المجد من طرفيه، الحكم والمعارضة في نفس الوقت، والقادم أعظم!